وصلت بنا الأيام إلى اشهر الخريف، لنودع "زاب" بأيامه الحارة، فزحف الاصفرار المتثاقل على الطبيعة الخلابة، كأنه كهل يلاقي الصعوبة في الحركة، وساد اللون الأصفر على كل ما هو اخضر رويداً رويداً، حتى اصبح هو اللون السائد بدون منازع، وبذلك بدت الشيخوخة تاركاً ورائه الشباب الخضر اليافع. لتكتمل الصورة بتواجدنا في منطقة " مغارة الجرحى" التابعة لمنطقة زاب، وأنا كعضوة من اعضاء الأنصار أجدد ذاتي ونفسيتي، لان الأنصار يتأقلمون مع فصول السنة جميعاً، الجميلة منها والشاقة.
في أحد الأيام من عام 1996 اصطحبتني الرفيقة" جيجك" قائدة سريتنا لحضور اجتماع إدارة المنطقة في هركول، سرنا في الطريق نلوي جبل" هركول"، إلا أنني لم أسر لمسافات طويلة منذ فترة لا بأس بها، وما بالك جبل هركول، فلها موقع خاص محفور في فؤادي، إذ يرتابني هيجان ويخفق قلبي بعنفوانِ دون توقف، كلما اسمع كلمة" هركول" ، أصبحت افتتن بتلك الديار الشاهقة والأراضي الواسعة، التي تقبع تحت حاكميتنا على مد البصر، مما يجعل السير على تربتها مريحاً وسهلاً. تتالت خطواتنا مسافة ساعتين في إحدى الطرق الترابية القديمة، على جانب منه جبل شاهق بانحداره الشديد، وفي الجانب الآخر جرف سحيق. تحدثنا على طول الطريق مع الاستماع إلى الموسيقى، وكنت حذرة أمام أي خطر غير محتسب، إذ يجب الحذر أمام أخطار الطبيعة والعدو معاً وعدم التهاون فيها، رغم حاكمية الأنصار على الجغرافية. فيما نحن نسطر الكلمات شفوياً، تجمدت الرفيقة" جيجك" في مكانها وأشارت بيدها وقالت:
ـ انظري يا رفيقة" جيان" إلى ذاك الشيء… هناك…
رمقت إلى المكان المشار، حيث بؤرة سوداء مربعة الشكل تحت حجر ابيض.
ـ نعم… رأيته، ماذا يكون يا ترى…؟
ـ لا اعرفه انه شبيه بالنافذة…
ـ بلى…
كان يشبه نافذة صغيرة مستقيمة باضلاعها. سألتها:
ـ ألا نذهب ونستفسر الأمر..؟
ـ ليس الآن، فالوقت ضيق ويجب أن نصل الاجتماع في أوانه، سنتفحصه في طريق العودة.
ـ حسناً كما تريدين.
تابعنا المسير، استقبلنا الرفاق بالترحاب، انضمت الرفيقة" جيجك" الى الاجتماع الذي بدأ بعد فترة قصيرة، واستمر حتى المساء، اما أنا فاستغرقت في حديث شيق مع الرفاق. مع حلول المساء بدأ المطر يهطل بغزارة ولساعات، وواصل ريثما حل الشمس عن العرش. أخلى الرفاق الشباب مجموعة الإدارة لنقضي فيه ليلتنا. حيث تحاورنا حول سر النافذة. أنغام زخات المطر التي تلقي بتحياتها على الخيمة استمرت حتى غلبنا النعاس، لندخل في سبات عميق بعد سير شاق ومتعب.
في الصباح الباكر وفور أن انهينا تناول طعام الفطور استودعنا الرفاق وسلكنا طريق العودة. إذ كان ذاك المشهد يتراقص أمام ناظري دون ان يغيب عن بالي ولو لبرهة من الوقت، كذلك كان الأمر بالنسبة للرفيقة جيجك أيضاً. عجباً…! ما عساه ان يكون..؟
الهيجان كان يحيط بأطرافنا الأربعة، كلما نترك وراءنا مسافة ونقترب من المكان الذي ترك فينا أثراً عميقاً ومجهولاً في الوقت عينه، حتى وصلنا الى حيث الحجر الأبيض ووقفنا بجانبه متفحصين الامر، ثم حملت الرفيقة" جيجك" احدى العصي، وتفحصته بالعصا عسى أن يكون فيها حيوان، بعد تأكدنا من خلوه من أي حيوان، مددت يدي بتمهل الى داخل النافذة وتحسسته دون ان اشعر باي شيء غريب. بعد البحث استشعرت وكأن يدي وقعت على بعض الحطب بمقاييس مختلفة. أخرجت واحدة لأعرف ما هيتها، لكن وبعد التمعن اندهشنا لما رأته أعيننا، لقد كانت قطعة عظام صغيرة بيضاء اللون، في البداية ظننا بانه عظام حيوان، فكلما أخرجنا عظمة ازداد اضطراب قلوبنا لأنه لا يشبه عظام حيوان. وقعت يدي على شيء كاد ان يكتم انفاسي، اخرجتها باقل من مهلي… كانت جمجمة..!. جمجمة طفل صغير، وباكتمال مجموعة العظام تجلى هيكل عظمي لطفل صغير. كنت قد وضعت الف احتمال واحتمال في الليلة الماضية، توقعت ان يكون اثر تاريخي او مصيدة للحجل او مخزن أسلحة قديمة حقيقية. بيد ان كل توقعاتي انتهت بقبر طفل صغير. تشابكت عواطفنا ولم يعد فينا القدرة على الحركة لان كل ما فينا ترك للحزن، ونحن نتمعن العظام التي هي على وشك الاهتراء. ولم استطع السيطرة على الدموع التي خانتني. وخطر لي بانه سيحيا ويرزق عندما المس جمجمته ويداه الصغيرتين وقدماه، ويمتلئ محجر عينيه ويحيى من جديد. كان علينا مغادرة المكان، ومرة اخرى اعدنا العظام الى حيث مكانه، واغلقنا الفوهة بصف من الحجارة كي لا تتضرر، وتركت له بصورة لا شعورية فتحة صغيرة، ليساعده على التنفس.
ـ لما فعلت ذلك..؟
سألتني الرفيقة جيجك ونظرت إلي وكأنها تعرف الجواب وتنتظره.
ـ لا لشيء، ليتسرب اليه الاشعة فقط.
آه…ايتها الام العزيزة كيف لي ان افهم ذلك الشعور التي احاطت بك، وانت تجعلين من هذه الحجارة والتراب اقدس قماط تلفين بها ولدك او ابنتك، العزيز او العزيزة، وكيف ذرفت الدمع من عينين لم تسعد ولم تفرح بالابن او الابنة، قضى احلى ايام عمره في رحلته القصيرة داخل احضانك. وعندما همنا بالمغادرة، استودعت الطفل بعد ان قدمت له تحية قلبية.
ظهر الشمس في كبد السماء مشرقاً، بعدما اخلت الغيوم السوداء الداكنة مكانها للغيوم البيضاء وكأنه القطن المتناثر، والسماء تعتليها زرقة صافية. كان الراديو في يدي واذ به يعزف مقطوعة موسيقية، وفجأة وعلى غير انتظار بدأت كوكبة من اطفال فرقة MKM ( مركز موزوبوتاميا الثقافي) بالغناء وكانت الاغنية بالكردية " بيتنا خلف جبل بينغول" وكأن الاقدار تعبث بحالتنا النفسية والروحية، نظرت الي جيجك وتبسمنا. كانت الموسيقى تعزف لجسد ذلك الطفل، انذاك خطر على بالي الحالة التي يعيشها اطفال الكرد، فغرقت في تفكير عميق، وامتد ناظري الى الافق البعيد المتواري والممتد بصورة لا منتهية. لكم تمنيت من اعماق قلبي ان يلعب مئات الاطفال الكرد بلعبة طائرة ورق الحرية، كم سيكون جميلاً لو حققت امنيتي هذه.
افصحت للرفيقة جيجك بما يدور في خلدي من افكار.
ـ ان خيالك قوي ولكن ينبغي الا يغيب عن بالك باننا في كردستان.
صحيح اننا نعيش في كردستان الوطن الذي لم ينقذ بنفسه من موقع الطمع والاستيلاء، ولا تملك سبيلاً لان يعيش شعبه بهويتهم الكردية والعيش كانسان متمتع بحريته. وهذا الطفل ما هو الا واحد من اولئك الاطفال الذين ماتوا واستشهدوا بدون أي ذنب، ومن يعلم فلربما ودع الحياة نتيجة المرض او الجوع. وكمقتل شعبنا في الانتفاضات والقتل العام والقصف الجوي. طفل اجهل اسمه ولا اعرف من يكون ومن هو، لكنه اضحى وبصورة فجائية جزء لا يتجزأ مني. تركت سنوات عدة ورائي الا ان الطفل بقي في العرش الذي بنيت له في فؤادي. فمن يعلم لربما هو الان ساكن في وطن الطيور… يتحدث بلغتهم ليبحث بتحياته الى عامة الاطفال.
جيهان سروج