الجانبُ الأكثر مأساويةً في الثورات العصرية كونها ضحيةَ نزعةِ الحداثةِ التي ساهمَت بذاتِها في تحقيقها.
يَكمُن النُّقصُ المشتَرَكُ لهذه الثورات في العجزِ عن تحليلِ تيارِ الحداثوية، مُعتَقِدةً بانتصارِها في أهدافها التي تتطلع إليها، حتى دون حلِّ أو تحليلِ علاقاتِها وتناقضاتِها مع تيار الحداثوية. عندما كان الأمرُ كذلك، فالمضامينُ اليوتوبياويةُ للثوراتِ لَم تتخلَّصْ من الذوبانِ في الحساباتِ الجَليديةِ للحداثويةِ في وقتٍ مُبَكِّر. الدرسُ الممكنُ استخلاصُه من تاريخِ المدنيةِ والحداثةِ طيلةَ خمسةِ آلافِ عامٍ عموماً وعلى مرِّ القرونِ الأربعةِ الأخيرةِ على وجهِ الخصوص، هو أنّ العامِلَ الأساسيَّ وراءَ فشلِ كلِّ المقاوَماتِ والثورات هو عجزُها عن وضعِ الفوارقِ بينها وبين النظام الذي تَمَرَّدَت عليه، وعن تكوينِ نظامِها المضادِّ له. إذ قَيَّمَت المدنياتِ والحداثةَ بموقفٍ أَحَدِيٍّ انفراديّ، وطابَقَت بينها وبين الحياة الكونيةِ التي يجب امتثالَها. لذا، ورغم أنّ المقاوماتِ التي لا حصرَ لها لَم تَترُكْ مدنيةً إلا وسَوَّتها بالأرضِ وهَدَمَتها، إلا أنّ ما تَحَقَّقَ لم يَكُ أبعدَ من نسخةٍ جديدةٍ من المدنيةِ السابقة.
هنا يَظهَرُ مصدرُ قوةِ المدنياتِ أمامنا. فالأشخاصُ اللامِعون عموماً هم أبناءُ المدنياتِ التي عاصروها، بما فيهم الثوريون العِظامُ أيضاً، فيما خلا بعض الاستثناءاتِ النادرة جداً. أي أنّ العصرَ الذي عاشوه يُشَكِّلُ والِدَيهم الحقيقيَّين. لا أتناوَلُ الموضوعَ بِقَدَرية. بل أودُّ التشديدَ على استحالةِ خلاصِ حتى أكثر الثوراتِ راديكاليةً قولاً وممارسةً من تَكَبُّدِ الفشلِ الذريعِ، ما لَم تَتَخَطَّ الخطأَ الجذريَّ الجَسيم، حتى لو عَمَّرَت خمسةَ آلاف سنة أو أربعةَ قرون. لا يمكننا البتةَ القول أنّ المقاوماتِ الاجتماعيةَ والثوراتِ لَم تَترُكْ لنا أيَّ إرثٍ يُذكَر. فلولا هذا الميراث، لَما كان سيَكُونَ لحياتنا أيُّ معنى. ولكن، حتى الأزمةُ المنتَصِبَةُ في الميدان، والتي تُعانيها حداثتُنا الواثقةُ من نفسِها تماماً، برهانٌ كافٍ على بُعدِها عن حلِّ منبعِ القضايا العالقة. أما انتشارُها على فتراتٍ طويلة، فلا يُمكِن أنْ يُفَنِّدَ كونَ الخطأِ خطأً، ولا تَخرُجُ القضايا من كونها قضايا إشكالية. وما دامُ الأمرُ مستمراً بهذا المنوال، فلا يُمكِن لِخيالاتِ الحياةِ التي تَسُودُها المساواةُ والحريةُ والديمقراطية أنْ تتحررَ من البقاءِ في دوامةِ اليوتوبيا الخيالية.
لدى قيامي بمحاسبةِ تاريخ المدنيةِ والحداثةِ أساساً في مرافعتي، أَكُونُ بذلك قد مَرَرتُ من نقدٍ ذاتيٍّ جذريٍّ من جانب، ومن الجانب الآخر أسعى لِتَقديمِ بَديلي، مهما كان ناقصاً. فالمبدئيةُ والمِصداقيةُ تقتضيان ذلك. لكنّ علمَ الاجتماعِ الأوروبيَّ المِحور عاجزٌ عن إبداءِ هذه المبدئيةِ الراسخة. فمن ناحية سنتحدثُ عن عصرٍ علميٍّ لا نظيرَ له، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ سنَبقى عاجزين حتى عن تذليلِ وحشيةٍ مُفجِعَةٍ كالحرب! في هذه الحالةِ لا تبقى ثمةَ شرعيةٌ لانتقادِ العصورِ القديمةِ بسلاحِ العلموية. ما ينبغي القيام به هو اللحاقُ بعِلمٍ ذي شرعيّة. وأنا أُقَيِّمُ جهودي ضمن هذا المضمار.
يجب عدم النظر إلى ما قُلتُه بشأن المدنيةِ والحداثة بعينِ المبالغة. لا يمكن الوقوع في الشكِّ قطعياً من صميميةِ الأنبياءِ العظمى لدى انتقادهم أنظمةَ النماردةِ والفراعنة باسمِ كلامِ الرب. لكنّ الزاعِمين باقتفائهم أَثَرَهم والسيرِ على خُطاهم دوماً، لم يتمالَكوا أنفسَهم البتةَ من تحقيقِ أنظمةٍ نمروديةٍ وفرعونيةٍ جديدةٍ تُخَلِّفُ نفسَ أنظمةِ النماردةِ والفراعنةِ وراءها. وإنْ كان السلاطِنةُ والمُلوكُ والأباطرةُ قد باتوا مع الأنظمة التي أسسوها أَسرى نفسِ النظام، فمن الضروري بمكان رؤيةَ قوةِ المدنياتِ في ذلك أيضاً. فالنيةُ الحسنةُ، والسيرُ على هُدى الأنبياء لا تُنقِذُ من التبعيةِ لنظامِ نمرود وفرعون.
كان ماركس ولينين وماو صادقين في صراعِهم تجاه الرأسمالية. بل وكان إيمانُهم راسخاً لا يتزعزع في أنهم أسسوا الاشتراكيةَ في مواجهةِ الرأسمالية. لكنّ النتيجةَ البارزةَ قبلَ مرورِ وقتٍ كثير أَظهَرَت أنّ البنيةَ التي أسسوها لا تختلف كثيراً عن الرأسمالية. هنا أيضاً كانت المدنيةُ الجديدة، أي الحداثة الجديدة هي التي تَفرضُ قوتَها. ذلك أنّ تحليلاتِ رأسِ المالِ السطحيةَ لَم تَكُ كافيةً لتطويرِ الاشتراكية. ما كان ناقصاً هو تحليلاتُ الحداثة. فالرؤيةُ العالميّةُ الوضعيّةُ التي تأثَّروا بها من الأعماق كانت تُقَدِّمُ الحداثةَ على أنها الحالةُ الأقدس للواقع. لِنَدَع انتقادَها جانباً، بل كانوا يَعتَقِدون بأنهم سيُزيدونها كمالاً. والنتيجةُ مبسوطةٌ للعَيان. فما دامَ تَسَلسُلُ الخطأِ التاريخيِّ مستمراً، فلن تتخلص حتى أنبل الأهداف وأقدسها من التحول إلى أداةٍ في خدمةِ حساباتِ المدنية والحداثةِ الجليدية.
ما وراء الحداثة بعيدةٌ عن أنْ تَكُونَ بديلاً، رغم كونها إحدى أولى الحركات الناقدة الجادة بشأن استحالةِ استمرارِ الحداثةِ الرأسمالية. فبُنيتُها التوفيقيةُ المتمفصلةُ والمُبهَمة لم تَمنَحها الفرصةَ حتى لعرضِ الفوارق التي تُمَيِّزُها عن الحداثةِ الكلاسيكية. بينما جهودُها الشبيهةُ برومانسياتِ القرنِ التاسع عشر بَقِيَت عاجزةً عن الذهابِ أبعدَ من كونها ضرباً من ضروبِ الآداب. أما انتقاداتُ الحداثةِ التي تَزَعَّمَها كلٌّ من فريدريك نيتشه في نهايات القرن التاسع عشر وميشيل فوكو في النصف الثاني من القرن العشرين، فبَقِيَت قاصرةً عن الخروجِ من كونها جهوداً فرديةً، وعن اكتسابِ ماهيةِ تيارٍ أخلاقيٍّ وسياسيٍّ جماعيّ؛ بالرغم من قِيمَتِها النفيسة. كذلك، فالتحليلاتُ الأحدث لكلٍّ من فرناند بروديل وإيمانويل والرشتاين وآندريه غوندر فرانك وزملائهم القريبين منهم في العمل بصددِ المدنيةِ والنظام العصري، فمن غيرِ الممكن القول أنها أَحرَزَت النجاحَ نفسَه في إنتاجِ البديل؛ رغم تعاطيهم الانتقاديِّ الأكثر واقعيةً للموضوع ضمن إطارِ تَكامُلِ المجتمع التاريخي. فكأنّ المدنيةَ والحداثةَ نظامان دائريان منغلقان يقتضيان الاستمرار الدائمَ بالضرورة، فيُوَجِّهون الانتقاداتِ الشاملةَ للغاية، غير أنهم لم يَذهَبوا أبعد من قولِ عدةِ جُمَلٍ باسم البديلِ المطروح. بمستطاعِنا فهمَ دوافعِ جنونِ نيتشه والموتِ المبكِّرِ لميشيل فوكو. ولكن، من غير الممكن القبول بِتَقديمِ ميشيل فوكو الاشتراكيةَ المشيدةَ على أنها البديل، وباقتصارِ إيمانويل والرشتاين على اصطلاحاتٍ أكثر مساواةً وحريةً وديمقراطية، وباكتفاءِ آندريه غوندر فرانك بقولِ عبارةِ «الوحدة ضمن التباين» التي هي أكثر عمومية من غيرها بكثير. وكأنهم بنواقصهم هذه يَعتَرِفون بِعَجزِهم عن كسرِ طوقِ سلسلةِ العلمِ الأوروبيِّ المَركز الذي انتَقَدوه كثيراً.
قد يُرى تحليلي للموضوع على أساسٍ انتقاديّ، وتقديمي البديلَ له ضمن إطارِ المرافعة بأنه محاكَمَةٌ شخصيةٌ لمَركزِيَّةِ المدنيةِ القديمة وللحداثةِ الرأسماليةِ كممثِّلٍ عنها في يومنا الراهن. هذا الرأيُ صحيحٌ بأحدِ معانيه. فقناعتي الشخصيةِ هي أنّ المرءَ لا يمكنه العملَ بعِلمٍ سليمٍ، دون تحليلِ محكوميتِه (لا أقصد الحكم بالسجن بالمعنى الضيق، بل أرمي إلى الحُكمِ الاجتماعيِّ العامِّ الذي فَرَضَته المدنيةُ والحداثةُ على الحياةِ الحرة). ذلك أنّ أولَ شرطٍ لإنجازِ عِلمٍ قَيِّمٍ هو تحليلُ الذاتِ الفاعلةِ القائمةِ به لنَفسِها، وتحقيقُها مكانتَها العملية. وفي حالِ العكس، فلن يستطيعَ التخلَّصَ من استخدامِ المعرفةِ والعِلمِ الذي حَظِيَ به في السوقِ كرأسِ مالٍ فكريّ في السوق، وبالتالي من إنجازِه عِلمَ السلطة.
الفكرُ المِحورُ لانتقاداتي هو أنّ نظامَ مدنيةِ الخمسةِ آلافِ عام (بما فيه النظام الهرمي الأقدم أيضاً) ينبع من تَراكُمِ رأسِ المالِ والسلطة المتأسِّسَين على مجتمعِ القريةِ – الزراعةِ والمجموعاتِ البدوية المتَرَحِّلةِ في الريف، وعلى الحِرَفِيّين والعُمّالِ العبيدِ في المدينة. حافظت احتكاراتُ السلطةِ والدولة على مضمونها هذا حتى يومنا، إلى جانبِ اكتسابِها أشكالاً مختلفة كالتجارةِ والمالِ والصناعة، باقيةً بذلك كأشكالٍ رئيسيةٍ لا تتغير. وتاريخُ المدنيةِ متأسِّسٌ على حروبِ الاقتسامِ والحصص فيما بين الاحتكاراتِ نفسها من جانب، وعلى الحروبِ التي شَنَّتها جميعُها معاً ضد القوى المناهِضة من الجانب الآخَر. ما يتبقى هو حروبُ الهيمنةِ الأيديولوجية، وألاعيبُ وترتيباتُ نهبِ القِيَمِ الاجتماعيةِ المعتمدةُ على الحربِ والسلطة. وعهدُ المدنيةِ الرأسمالية، أي الحداثة، هو الحالةُ الأرقى لهذا النظام. بينما طابعُ النظامِ من حيث المركز – الأطراف، الهيمنة – المنافسة، والأزمة المتصاعدة – المنخفضة؛ موجودٌ منذ البداية. أما عهدُ الحداثة، وبالأخص المرحلة التي يؤدي فيها الرأسمالُ الماليُّ دورَ الهيمنة، فهو تعبيرٌ عن وضعِ الأزمةِ البنيويةِ الأعمق على الإطلاق.
أما الحلُّ البديلُ الذي اقترَحتُه، فيتعلق بضرورةِ البحث عنه في وعيِ وحركاتِ الطبيعةِ الاجتماعيةِ لجميعِ القوى التي تَحتَلُّ مكانَها – بِحُكمِ الطابعِ الجدليِّ للنظام – في الطرف المضاد للنظام، منذ تصاعُدِ الهرمية حتى مراحلِ المدنية، وصولاً إلى سياقِ تاريخِ الحداثويةِ ذات الطابعِ الرأسماليِّ مؤخَّراً. ذلك أنَّ أيّةَ نسخةٍ من تاريخِ المدنيةِ الرسميةِ لا يمكن أن تَكونَ حلاً للقوى المضادة. ولَئِنْ بَقِيَت النضالاتُ الاجتماعيةُ عاجزةً في التاريخ عن تحقيقِ النجاحِ في يوتوبياتِها على دربِ المساواةِ والحرية، فالسببُ الأساسيُّ لذلك يكمن في استخدامِ الأسلحةِ نفسِها التي استَخدَمَتها المدنيةُ المُنهارة (أي قوى السلطة والدولة)، ومن تَصَوُّرِ المستقبلِ المُرادِ إنشاءَه كنسخةٍ مُعَدَّلةٍ مشتَقَّةٍ منها. فقُصورُها في إنتاجِ الذهنيةِ والبُنى الملائمة لطبيعتها الاجتماعية باستقلالية، أدى إلى انصهارِها في بوتقةِ اشتقاقاتِ القطب المضاد.
كما أنّ جريانَ التاريخِ ليس نظاماً من مداراتٍ متكرِّرَة، فهو أيضاً لا يتقدمُ على خطٍّ مستقيم. فبقدرِ ما كَوَّن داخِلَه من حركاتٍ ذهنيةٍ وبنيوية، فهو بالمِثل مجموعُ حركاتِ الوعي والممارسةِ المُحَمَّلَةِ بأعبائها والمُكتَسِبَةِ تكامُلَها بالثِّقَلِ نفسه. فالتحولُ إلى تاريخ، والتواجُدُ كجزءٍ من حَلَقاتِ الجريانِ أمرٌ ممكنٌ في كلِّ الأوقات. أما شرطُ ذلك، فهو التحلي بالقوةِ الذهنيةِ والصياغةِ البنيويةِ حسب الثِّقَلِ اللازم. والتاريخُ بمعناه هذا يتسم بطبيعةٍ لا تُخطِئُ أبداً. أي أنّ جميعَ الآراءِ والممارساتِ العاجزةِ عن تطويرِ القوةِ الذهنيةِ وتأمينِ الصياغةِ البنيوية بما يُخَوِّلُها لاحتلالِ مكانتها ضمن التاريخ؛ إنما عليها البحثَ عن مسؤوليةِ ذلك في ذاتِها هي.
1- المدنية، الحداثة، وقضيةُ الأزمة:
أنظمةُ المدنية مشحونةٌ بماهيةِ الأزمة بِحُكمِ بُنيتِها. أي أنّ الأزماتِ ليست أوضاعاً تَؤولُ إليها بين حينٍ وآخَر حصيلةَ عوامل داخليةٍ وخارجية على مدى الزمان والمكان. بل إنّ النظامَ ذاتَه يُنتِجُ الأزماتِ باستمرار (أو الأزمات العارمة في حال الإفراط فيها). مَنطِقُ الأزمةِ بسيطٌ للغاية: تتأسسُ السلطةُ – أو طبقاتُ الدولةِ بِتَعبيرٍ أكثرَ رسميةً – على القِيَمِ الاجتماعيةِ وفوائض القِيَمِ المُغتَصَبة. هذه الطبقاتُ المتأسسةُ في أحشاءِ المجتمع تَجنَح دوماً للتعاظُمِ بِحُكمِ بُناها المُنَظَّمةِ والمُسَلَّحة. وبسببِ الارتزاقِ بِشَقِّ الأنفس والموتِ نتيجةَ مختلفِ أنواعِ الأمراضِ والحروب، يتناقصُ تعدادُ شرائحِ المجتمعِ الكادحة نسبةً إلى طبقاتِ الدولة. بينما يتضاعف تعدادُ أصحابِ الدولةِ وشتى أنواعِ أجهزةِ السلطة كثيراً، كونَهم يَتَّبِعون نظاماً غذائياً أفضل بكثير، ويَحمون أنفسهم، ويُكثِرون من النسل (ماهيةُ السلالةِ للسلطاتِ والدول الأولى مَيّالةٌ للأسرةِ الكبيرةِ ذات التعداد الكثير. فسياسةُ القوةِ تقتضي ذلك). حالةُ الاختلالِ المتبادَلِ هذه المتعلقةُ بالنظام، تعني الأزمة. فكلما استمرت طقباتُ الدولةِ المتكاثرةِ والمتوطدة أكثر في نهبِ قِيَمِ المجتمع، تبدأُ مرحلةُ استحالةِ استمراريةِ النظام. وهذا هو الوضعُ المسمى بمراحلِ الأزمة.
هناك سبيلان ضروريان للنفاذ من الأزمة. أولُهما؛ تَظهَرُ قوةٌ مهيمنةٌ جديدةٌ تقضي على منافِسيها حصيلةَ حروبِ الهيمنة المحتدمة. ونظراً لأنّ القوةَ المهيمنةَ قد سَحَقَت أندادَها ذوي النصيب الوفيرِ سابقاً، فمن الطبيعي أنْ تستوليَ على حِصَصِهم، مُعتَبِرَةً أنها تَخَطّت الأزمةَ نسبياً لفترةٍ محدودة، إلى أنْ يَظهَرَ منافِسون جدد إلى الميدان. ثانيهما، وبالتداخل مع الأول في أغلبِ الأحيان؛ تُحَقِّقُ زيادةَ الإنتاج بإدراجِ الأساليب الإنتاجيةِ والتجارية والصناعية الأكثر عطاءً حيزَ التنفيذ. والنظامُ المهيمنُ الذي يُحَقِّقُ زيادةَ الإنتاج، يعني أنه بلغَ عهدَ الرفاه كوجهٍ مضادٍّ للأزمة. الأزماتُ أطول فاصلاً بَينِيّاً وأَجَلاً زمنياً في مدنياتِ العصور القديمة. فلَطالَما تم المرورُ بأزماتٍ مستمرةٍ بفواصل ممتدّةٍ من قرنَين إلى ألفِ عام. وكلُّ مرحلةٍ من الأزمةِ المستشرية تنتهي عموماً بتغيُّرِ السلالةِ والمركز. بالمقدور تَعَقُّب هذه المراحل على نطاقٍ واسع اعتباراً من مدنِيتَي سومر ومصر. أما أزماتُ العصورِ الوسطى، فرغم تشابُهِها مع سابقاتها، إلا أنّ فتراتِها باتت أقصرَ أَمَداً. حيث شوهِدَت برواجٍ منتشرٍ على فتراتٍ زمنيةٍ تمتد من قرنٍ إلى قرنٍ ونصف.
لأزماتِ النظامِ الرأسماليِّ جوانبُها الخاصةُ بها، رغم حدوثِها وفق هذا الخطّ العام. فاحتكاراتُ المالِ والتجارةِ في النظام تؤدي دوراً ريادياً في البدايات. علاقاتُها مع الإنتاجِ محدودة. مقابلَ ذلك، يُستَخدَم المالُ على نطاقٍ واسعٍ في الاقتصاد، وتتنامى أهميةُ المالِ كثيراً بسببِ تَطَوُّرِ التسليعِ التجاريِّ واكتسابِه خاصيةَ السيادة. ويَتَرَكَّزُ احتكارُ المال والتجارةِ في يدِ حفنةٍ قليلةٍ من القوةِ خلال المسار. في هذه الحالةِ تَنخَفِضُ قوةُ الشراءِ لدى المجتمع بسبب ندرةِ المال. وتُعاشُ أزماتُ زيادةِ الإنتاجِ كحالةٍ أولى للأزمة، نظراً لبقاء الإنتاجِ الزائد في الوسط دون استهلاك. فبينما يَفسُدُ الإنتاجُ الزائدُ للعجزِ عن بيعِه من جانب، ففي الجانب الآخر يتضورُ الكادحون جوعاً وحرماناً لافتقادِهم قوةَ الشراء بسبب ندرةِ المال. ويُعاشُ العكسُ أيضاً خلالَ فترةٍ وجيزة. فالإنتاجُ البخسُ تنخفضُ قيمتُه، وتَنقَطِعُ علاقةُ المال الذي في حوزةِ اليد مع الإنتاج. إذ ثمةَ مالٌ كثيرٌ وإنتاجٌ قليلٌ في الميدان. وغَلاءُ المَعيشةِ المتزايدُ (التضخُّمُ الماليّ) يعني وضعاً جديداً من الأزمة. الطريقُ المُبتَكَرُ للنفاذِ من كِلتا حالتَي الأزمة هو العمل على تلافي زيادةِ أو نقصانِ الإنتاجِ بِخَلقِ شريحةٍ مأجورةٍ محدودة، وزيادةِ مصاريفِ الدولة؛ بالإضافة إلى حروبِ الهيمنةِ كطريقٍ تقليديّ. لقد شوهِدَ هذا النمطُ من الأزمات بشكلٍ منتشرٍ ومتداخلٍ في عصرِ هيمنةِ الرأسمالية طيلةَ القرونِ الأربعةِ الأخيرة. ولكن، بفتراتٍ أقصر، بحيث تمتد من خمسين إلى مائةِ عام.
باتت حروبُ الهيمنةِ شاملةً ومُكَثَّفَةً وطويلةَ الأَمَدِ بما لا يمكن مقارنته مع أيةِ مرحلةٍ حضارية. والاحتكاراتُ المُنخَرِطةُ في الحربِ أيضاً أصبَحَت على الصعيدَين القومي والدولي. بالتالي، لأولِ مرةٍ يتم التعرف على حروبٍ ذاتِ نطاقٍ عالميّ. بينما لم تَغِبْ الحروبُ المحليةُ والإقليميةُ في أيِّ وقتٍ كان. الأفظع أنّ المجتمعَ برمته تجري عَسكَرَتُه على يدِ الدولةِ القومية، لِيُزَجَّ به فيما هو أَشبَهُ بحالةِ حرب. لذا، من الواقعيةِ أكثر نعتَ مجتمعاتنا الراهنة بمجتمعاتِ حالةِ الحرب. حالةُ الحربِ المَفروضة تُدارُ من قناتَين. أُولاهُما؛ إرضاخُ المجتمعِ بجميعِ مساماته للرَّصدِ والمراقبةِ والقمعِ المُشَدَّدِ من قِبَلِ أجهزةِ السلطةِ والدولة التي تحيطُ به كالشَّبَكة باعتبارها قناةَ الطريقِ الواقعي. الطريقُ الثاني هو إقامةُ المجتمعِ الافتراضيِّ مكانَ المجتمعِ الحقيقيِّ بوساطةِ قنواتِ تقنيةِ المعلوماتيةِ (الاحتكاراتُ الإعلامية) المتناميةِ بثورةٍ نوعيةٍ خلال الخمسين سنةً الأخيرة. يُمكِنُ وصف كِلتا حالتَي الحرب بالإبادةِ المجتمعية. فإلى جانبِ الإباداتِ العِرقيةِ المُطَبَّقَةِ قديماً بحدودٍ أضيق، فالإباداتُ المجتمعيةُ الجديدةُ هذه تُحَضِّرُ نهايةَ الطبيعةِ الاجتماعيةِ بحالاتها الدائمةِ والمكثَفة. قد يستمرُّ وجودُ مخلوقاتٍ شبيهةٍ بالنوعِ البشري، ولكنْ كحشدٍ قطيعيٍّ وكجماهيرِ الفاشية. إحصائيةُ الإبادةِ المجتمعيةِ تُظهِرُ نفسَها في فقدانِ المجتمعِ بأكمله لماهيتِه الأخلاقيةِ والسياسيةِ، لأنها أشدُّ وطأةً من الإباداتِ العِرقية. والتَجَمُّعاتُ البشريةُ اللامباليةُ حتى بالكوارث الاجتماعيةِ والأيكولوجيةِ الأثقلِ وطأةً خيرُ دليلٍ على هذه الحقيقة. لذا، لا يمكن إنكارَ عيشِ وضعٍ متأزِّمٍ يتجاوز الأزمةَ العارمة. قد يَكُون من المفيد إيجازَ كيفيةِ الوصول إلى هذا الوضع، ولو تكراراً، بغرضِ تأمينِ التكامُل.
أ- التاريخُ بأحدِ المعاني يعني التَعاظُمَ التراكُميَّ للسلطة (ككرةِ الثلجِ المتضخمة كلما تدحرجت)، منذ تأسيسِ أولى هرمياتِ السلطة وسياداتِ الدولة حتى يومنا. فتاريخُ المدنيةِ زماناً ومكاناً مليءٌ بحروبِ السلطةِ التي هي جوهرُه. فبدءاً من الحروبِ المحلية إلى الحروبِ العالمية، ومن الحروبِ القَبَلِيّةِ إلى الحروبِ القومية، ومن الحروبِ الطبقيةِ إلى الحروبِ الدينية؛ جميعُها انتهَت بإكثارِ السلطةِ وتَعاظُمِها التراكُميّ. إكثارُ السلطةِ يعني التطورَ الطبقيَّ المقتات بالتطفلِ على القيمِ الاجتماعية. فالحُكمُ الذي يُكَوِّنُ هرميةً محدودةً في بداياته، ويُقَدِّمُ أحياناً مساهماتِه الهامةَ إلى المجتمع بتجاربِه وخبراته؛ يَغدو طبقاتٍ كاستيةً منغلقةً مع تَحَوُّلِه إلى دولة. فالمجموعاتُ الكاستية، وإلى جانبِ ماهيتِها السلالاتية، قد نَظَّمَت نفسَها على شكلِ طبقاتٍ امتيازية، مكتسبةً امتيازاتٍ خاصةً لدرجةٍ تُخَوِّلها الزعمَ بالألوهية. العصورُ القديمةُ مليئةٌ بالمُلوكِ – الآلهة والأباطرةِ الشواهدِ على تَضَخُّمِ وسموِّ السلطةِ بمثلِ هذه المزاعمِ باستمرار. بينما طبقاتُ السلطةِ والدولة التي تُنَظِّمُ نفسها على هيئةِ ثالوثِ الراهب + الحاكِم الإداري + القائد العسكري، كانت زمرةً محدودةً بحالتِها هذه، وتُشَكِّلُ نسبةً منخفضةً جداً من تعدادِ المجتمع. لكننا نَعلَم من أمثلتهم التي لا تُحصى أنهم باتوا عبئاً ثقيلاً على كاهلِ المجتمع كبدايةٍ للتطفل. فالأهراماتُ والمعابدُ والحَلَباتُ تُوَضِّحُ ماهيةَ هذا العبء بأفضل الأحوال.
لَم يَفقُدْ تَزايُدُ السلطةِ من وتيرتِه شيئاً في العصور الوسطى. فالتاريخُ مُعَبَّأٌ بحروبِ السلطةِ المتزايدةِ بانتشارِها في أماكن أوسع نطاقاً. لا ريب أنّ زيادةَ إنتاجيةِ المجتمعِ تُشَكِّلُ دافعاً في ذلك أيضاً. وأُضِيفَت طبقةٌ شاسعةٌ من الأرستقراطيين إلى السلالاتِ المَلِكية. رغمَ ذلك، من غير الممكن الحديث عن تَسَرطُنِ طبقةِ الحُكّام آنذاك. الفاجعةُ بدأت مع هدمِ البنية المَلَكيةِ والأرستقراطيةِ وإطراءِ التحوُّلِ عليها، ومع ظهورِ الطبقةِ الوسطى، البورجوازية والبيروقراطية، وتَحَوُّلِها إلى طبقاتٍ سلطويةٍ مُمسِكةٍ بدفةِ الحُكم. لا شك في إمكانيةِ نعتِ الحُكّام السابقين لها بالفاجعةِ أيضاً. لكنها جميعَها لَم تَكُ بالدرجةِ التي تَقدِر فيها على ابتلاعِ المجتمعِ كلياً. فأوضاعُها الكميةُ والنوعيةُ لم تَكُ تَسمَح بذلك. إنّ تَحَوُّلَ الشرائحِ الاحتكاريةِ العُليا من البورجوازيةِ مع البيروقراطيةِ وقسمٍ هامٍّ من البورجوازيةِ الوسطى إلى سلطةٍ وطبقاتِ دولة، يعني حلولَ الآلاف، بل عشراتِ الآلافِ من قوةِ سلالاتٍ جديدةٍ مَحَلَّ قوةِ عدةِ سلالاتٍ ومَلَكِيَّاتٍ قديمة. أي أنه يعني حلولَ آلافِ المُلوكِ مكانَ مَلِكٍ واحد. واتحادُ الشخصيةِ الذكوريةِ المُتَحَكِّمةِ المتناميةِ في المجتمعِ الجنسويّ مع القوى المَلَكيةِ الجديدةِ تلك، إنما يعني غزوَ واستعمارَ الطبيعةِ الاجتماعيةِ بأكملها على يَدِ قوى السلطةِ الجديدة. فجميعُ شرائحِ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي، وعلى رأسها المرأة، باتت ضحايا هذا الاستعمار الداخلي.
لَم يتم تحليل تَدَوُّلِ الطبقةِ الوسطى بعد، بسبب أواصرِ الانتماءِ الجذريةِ لِحَدٍّ ما بينها وبين علمِ الاجتماع. ولكي يَكُونَ للدولةِ معنى لدى المجتمع، فلا بد من أنْ تَقُومَ بوظيفةٍ تَدُلُّ على تَراكُمِ المهارةِ والخبرةِ اللازمَتين. ليس عسيراً استيعاب دوافعِ تمثيلِ المهارةِ والخبرةِ بأشخاصٍ جدِّ محدودين بالنسبة للإدارةِ الحاكمة. لكنَّ عرضَ البورجوازيةِ والبيروقراطيةِ نفسَيهما بِجُثَّتَيهما المتضخمتَين على أنهما طبقةُ حُكمِ الدولة، يَجعَلُ تَعاظُمَ السلطةِ ضمن المجتمعِ كحالةٍ سرطانيةٍ أمراً لا مفرَّ منه.
هكذا، فالدولةُ القوميةُ المُعَبِّرَةُ عن اتحادِ وتَكامُلِ احتكاراتِ الاستغلالِ الاقتصاديِّ والهيمنةِ الأيديولوجيةِ مع أجهزةِ السلطة، باتت مع السلطةِ كلَّ شيء. بينما المجتمعُ أصبحَ لا شيء. هذا هو فحوى الحَدَث الذي أسميناه بأزمةِ السلطة. والنظامُ الرأسماليُّ هو قوةُ تَوليدِ هذه الأزمة. فالشبكةُ الرأسماليةُ بطبقتِها الوسطى المَسعورة وباحتكاراتها الرأسمالية التي لا تَعرِفُ حدوداً للتضخم على الاقتصاد، لا يمكنها الاستمرار بوجودِها إلا بتَشكيلِ السلطةِ لذاتها في هيئةِ الدولةِ القومية. هذا هو الحدث المسمى بانسدادِ وعُقمِ النظام. بينما التحول السلطوي يُعَبِّرُ عن وضعٍ أبعد من الأزمة.
ب- المجتمعُ الأخلاقيُّ والسياسيّ، الذي يُعَدُّ الحالةَ الاعتياديةَ للطبيعةِ الاجتماعية، هو وجهاً لوجه أمام الحرمانِ من ماهياته الأساسية في عصرنا بما لا يمكن مقارنته بأيةِ مرحلةٍ تاريخيةٍ أخرى بتاتاً. فالمجتمعُ الأخلاقي والسياسي، الذي تصاعَدَ على التضادِّ مع الدولة طيلةَ العصورِ القديمةِ والوسطى، بات مُرغَماً على تركِ مكانِه بسرعة لِحُكمِ الدولةِ وبُنودِ القانونِ الوضعيِّ المتكاثر بلا حدود تزامُناً مع عهدِ الحداثةِ الرأسمالية. أي أنّ ماهياتِ المجتمعِ الأخلاقيةَ والسياسيةَ تَنَحّت عن مكانها في ظلِّ الحداثةِ لِتَحُلَّ مَحَلَّها حشودُ الرعاع وأعضاؤها من المواطنين المُتَنَمِّلين الذين لا يُمَثِّلون أيَّ شيءٍ إطلاقاً.
المُواطِن الذي يُزعَمُ أنه عصري، وعلى عكسِ ما يُقال، لا يتسم بأية هواجِسَ أخلاقية أو سياسية، إنما يُمَثِّلُ أضعفَ مراحلِ كينونته كَفَرد. صِلاتُه مع المجتمعِ محدودةٌ بزَوجَتِه التي يُمارِسُ عليها صلاحياتِه الإمبراطورية. إنه كائنٌ عديمُ الشخصية ومنصهرٌ ضمن حُكمِ السلطةِ والدولةِ لدرجةٍ لا يمكن قياسها حتى بعهدِ فرعون. أو بالأصح، ومن خلالِ الهيمنةِ الفيزيائيةِ والأيديولوجيةِ وتطبيقاتِها التقنيةِ والمعلوماتية، لم يَقتَصِر المواطنُ على الاستسلامِ للنظامِ الاحتكاريِّ وحسب، بل وغدا عضواً فاشياً طوعياً لهذا النظامِ دون قيدٍ أو شرط. هذا هو الحدثُ الذي أَسمَيتُه بأزمةِ الشخصية. إذ لا يمكن للطبيعةِ الاجتماعيةِ أن تتكَوَّنَ من هكذا نوعٍ من الشخصيات، لأنّ نسيجَها الأساسيَّ ذو نوعيةٍ أخلاقيةٍ وسياسية. في حين لا يمكنكم العثور على هذه الماهية ضمن تلك الشخصية، حتى لو بَحَثتُم عنها بالمِجهر. الدولُ قادرةٌ على السير بهذه الشخصيات. لكن، ما من مجتمعٍ يمكنه الاستمرار بهذه الشخصية. أو بالأصح، فهذه الشخصيةُ تَعبيرٌ عن تفنيدِ المجتمع.
ونظراً لأنّ الدولةَ مستحيلةُ الوجودِ بلا مجتمع، فنحنُ وجهاً لوجه مرةً أخرى أمام وضعٍ تَعيشُ فيه الدولةُ والمجتمعُ أزمةً متداخِلة. وضعُ الشخصُ العديمُ الشخصية، والذي بَلَغَته نزعةُ الفرديةِ الرأسمالية، ليس سوى ظِلٌّ للأزمةِ التي تعانيها الدولةُ والمجتمعُ على السواء. واضحٌ جلياً أنه لا احتكاراتُ رأس المال، ولا احتكاراتُ السلطة، ولا حُكمُ الدولةِ القوميةِ التي هي صياغةُ الدولةِ المُوَحَّدَةِ أمورٌ ممكنةٌ، دون الإيقاع بالمجتمع والفرد في هذه الحالة. الأزمةُ الاجتماعيةُ تُعَبِّرُ عن وضعٍ أبعد من الأزمةِ البنيوية. قد تُنشَأُ بنيةٌ مكانَ أخرى. أما فُقدانُ الماهياتِ الأساسيةِ لِكَينونةِ المجتمع، فهو ليس وضعاً يمكن التغلب عليه بسهولة من خلالِ إعادةِ البناء. بل يَقتَضي إعادةَ إنشاءِ المجتمع الأخلاقي والسياسي. وهنا تكمن المشقة.
ت- التمدنُ عنصرٌ آخَر من عناصر الحداثةِ الأكثر أزمةً على الإطلاق. مجتمعُ المدينةِ، الذي تَطَوَّرَ ضمن تَكامُلٍ جَدَلِيٍّ مع مجتمعِ القرية – الزراعة، قد أدى وظائف اجتماعيةً هامة. هذا وله دورُه الاجتماعيُّ في نَماءِ العقلانيةِ والصناعة. ولم يتطور تناقضُه مع البيئةِ المحيطةِ بعد. لكنّ مرحلةَ التدوُّلِ حَرَّفَت دورَ المدينة. فالمدينةُ المُحَوَّلةُ إلى قاعدةٍ ومَقَرِّ للطبقةِ الحاكمة، قد اكتَسَبَت بنيةً وذهنيةً مضادةً لمجتمعِ القرية – الزراعةِ والأيكولوجيا ضمن السياقِ التاريخي. كما حُمِّلَت المدينةُ وظائف على حسابِ المجتمع، مع اكتسابِ طبقةِ التّجّارِ مكانةً مركزيةً إلى جانبِ الطبقةِ المُنتِجة. هذه الوظائفُ السلبيةُ التي كانت محدودةَ النطاق في العصورِ القديمةِ والوسطى، قد تعاظَمَت كالتيهورِ تَزامُناً مع الحداثة. أما المدنُ المتعاظِمةُ كالسرطان تَماشِياً مع الثورةِ الصناعية، فقد غَدَت مراكزَ هدمِ المجتمعِ التقليدي. أي أنّ المدينةَ الصناعيةَ ليست بمدينة، بل هي لامدينةُ المدينة، أي إخراج المدينة من كونها مدينة. فالمدائنُ التي سُكانُها مائة ألف فقط نقيضةٌ لِمَنطِقِ المدينة، فكيف إذا كانت ذات مليون نسمة؟ مدينةٌ واحدةٌ سكانُها مليون نسمة مستحيلة، بينما مدنٌ عديدةٌ إجماليُّ سكانِها مليونُ نسمة أمرٌ ممكن. فإنْ كان ثمة مدينةٌ من خمسةِ ملايين نسمة في مكانٍ ما، فهذا مفاده فعلاً أنه ثمة خمسون مدينة على الأقل هناك. خاصيةُ المدينةِ في هدمِ المجتمعِ مَخفِيَّةٌ في حقيقتِها هذه. فهكذا مدائن عاجزةٌ عن حملِ عبءِ المجتمعاتِ الاعتيادية، بينما يستحيلُ عليها حملَ عبءِ البيئةِ بتاتاً.
يتجسد المنطقُ الكامنُ وراءَ التَّضَخُّمِ السكانيِّ لهكذا مدن في استعمارِ المجتمع اللارأسمالي، وإكثارِ السلطة، وارتقاءِ مكانةِ الطبقة الوسطى إلى مستوى الحُكم. العواملُ الثلاثةُ معاً تتكوَّنُ مع القضاءِ على المجتمعِ الأخلاقي والسياسي. فهي لا تقتصر على تصفيةِ مجتمعِ القرية – الزراعة والمجتمعاتِ المهاجرة وحسب، بل وتُقحِمُ شرائحَ الوظيفةِ الإيجابيةِ التقليديةِ في مجتمعِ المدينة، كالحِرَفِيّين وصِغارِ الكَسَبة والمتنورين والكادحين الآخرين، في مرحلةِ الزوالِ مادياً ومعنوياً على السواء. هكذا يتم العبور من مجتمعِ المدينة صوب حشدِ المدينة. أما الريف، فيُحمَلُ إلى الضواحي النائية، مُكتَسِبَاً شأنَ مُستَعمَرةٍ خاضعةٍ لمزيدٍ من السيطرة. احتكارُ الدولةِ والسلطةِ يَبتَلِعُ المدينة، والمدينةُ تَبتَلِعُ الريف. أما المجتمعُ الذي ليس بمجتمع، فيَبتَلِعُ البيئة. ونظراً لأنه لم يَتَبَقَّ مجتمعٌ ريفيٌّ ولا بيئةٌ ولا كادحو أو متنوِّرو المدينةِ التقليديون ليَحمِلوا عبءَ المدينة، فإنّ الوضعَ البارزَ مرةً أخرى هو ما فوق الأزمة.
ليست الكوارثُ البيئيةُ وحسب، بل والإبادةُ المجتمعيةُ الحقيقيةُ أيضاً على صِلةٍ مباشرةٍ مع سَرطَنَةِ المدينةِ هذه. التشخيصُ المشتَرَكُ للعلومِ هو أنّ عدداً جمَّاً من المدائن التي لا تستطيعُ حتى دولةٌ تَحَمُّلَها – ناهيك عن تَحَمُّلِ منطقةٍ لها – قد أَلحَقَ ضرباتٍ مُميتةً بالتوازُنِ الأيكولوجيِّ للعالَم. أما مؤشراتُ التصفويةِ المفروضةِ على المجتمع، فهي ليست سوى أنسجةُ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي التي قَوَّضَتها الطبقةُ الوسطى الحاكمةُ المتضخِّمَةُ كالوَرَم، وحشدٌ غفيرٌ عاطلٌ عن العمل، وبَلبَلَةُ تَّجَمُّعِ مواطِنين لا مبالين.
ج- قوةُ هيمنةِ الاحتكاراتِ المُعاديةِ للاقتصاد، والتي تعاظَمَت تدريجياً، قد أَخضَعَت المواردَ الاقتصاديةَ لِتَراكُمِ الربح – رأس المال، فابتَعَدَت عن مكانتِها في تلبيةِ الاحتياجاتِ الضروريةِ للمجتمع. وعلى عكسِ ما يُعتَقَد، فأزماتُ الرأسماليةِ البنيويةُ برهانٌ على أنها احتكارٌ مضادٌّ للاقتصاد، وليست النظامَ الاقتصاديَّ الأكثر عطاءً. فرغم كلِّ أطروحاتِ الاقتصادِ السياسيِّ المعكوسة إلا أنّ شبكاتِ الاحتكارِ الرأسماليِّ حَوَّلَت الاقتصادَ من نظامٍ مُنتِجٍ لِحاجاتِ الإنسان الضروريةِ إلى نظامٍ يُحَقِّقُ تَراكُمَ الربح – رأسِ المالِ بمعاييرَ لا يمكن قياسَها بأيةِ مرحلةٍ أخرى. بينما التقدمُ في العلمِ والتقنيةِ يتميزُ بمكيالِه القادرِ على تلبيةِ حاجاتِ الإنسانِ الأساسيةِ بكل سهولة. وإدارةٌ اقتصاديةٌ سليمةٌ يُمكِنُها تلبيةَ تلك الحاجاتِ بشكلٍ يسيرٍ باستخدامِ العلم والتقنية. ولكن، لا يُؤذَنُ في هذه الحالة للتطورِ الاقتصادي، نظراً لأنّ تَراكُمَ الربحِ – رأسِ المال سيَكُونُ مُهَدَّداً. لذا، يُصبِح التضادُّ مع الاقتصادِ ضرورةً حتمية.
علينا البحث عن الأزمةِ الممنهجةِ والبنيوية في هذا الواقع. فالأزماتُ ومراحِلُ البُحرانِ التي تَعكِسُ نفسَها دائماً عبرَ زيادةِ أو نقصانِ الإنتاج (بحيث تَكُون شِدَّتُها منخفضةً أو مرتفعة)، وفي الصدارة من خلالِ البؤسِ القاهِرِ والمجاعاتِ والبطالةِ التي لا مثيلَ لها في التاريخِ أبداً (نادراً ما يتحدث التاريخُ عن العبيد أو القِنانِ العاطلين عن العمل)؛ إنما تُؤَلِّفُ ضرباً من حُكمِ الأزمة عبرَ تكثيفِ الحروبِ والاشتباكاتِ أكثر، وجَعلِها أطولَ مدةً باعتبارها أدواتِ الحل التقليدية. ذلك أنّ التضادَّ مع الاقتصاد يحتاجُ بالضرورة إلى حُكمِ الأزمة، ولا يمكن للحُكمِ أنْ يَكُونَ بشكلٍ آخَر. من هنا، ينبغي الإدراك جيداً أنّ حُكمَ الدولةِ القومية يُمَثِّلُ حُكمَ أزمةٍ غيرَ اعتيادي. فإخراجُ المجتمعِ من كونه مجتمعاً، وتصييرُه حشداً قطيعياً – فاشياً، ليس أسلوباً خاصاً بهتلر وحسب، بل هو مرتبطٌ بالطابع العسكرتاري للدولة القومية. فنظراً لاستحالةِ الاستمرارِ بالنظامِ الاحتكاريِّ بأيِّ شكلٍ آخر، فحُكمُ الدولةِ القوميةِ مضطَرٌّ لأنْ يَكُونَ حُكمَ الأزمة بالضرورة، بوصفِ الدولةِ القوميةِ قالبَ السلطةِ المُحاصرَةِ للمجتمعِ لأقصى درجة، والمتغلغلَ فيه حتى أدقِّ مساماته. أما خلقُ الأمة، فهدفٌ ثانويّ. في حين أنّ القومويةَ شرطٌ لا غنى عنه في نمط هذا الحكم إلى جانبِ العناصر الأيديولوجيةِ الأخرى.
نمطُ التحليلِ المَعمولِ به بشأنِ الاحتكاراتِ الرأسمالية هو الفصل بين الأزماتِ التجارية والصناعية والمالية. فضلاً عن أنّ المُغالاةَ في أطوارِ الأزمة – الرفاه بعيدةٌ عن عكسِ جوهرِ النظامِ القائم. فلا دوامةُ المركز – الأطراف، ولا الهيمنة – المنافسة، ولا الأزمة – الرفاه تَعكِسُ مضمونَ النظامِ الحقيقيّ. لا ريب أنّ لِجميعِ هذه الوقائعِ نصيبُها. خاصةً وأنّ طَورَ هيمنةِ الاحتكاراتِ المالية يُعَبِّرُ عن المرحلة التي تَنعَكِسُ فيها الأزمةُ بالأكثر. وهو تشخيصٌ صحيح. لكن، من المهم للغاية صياغة التحليلات مع الإدراك بأنّ كلَّ هذه الوقائع لا يمكن أنْ يَكُون لها أيُّ معنى، ما لَم يُستَوعَبْ تَضادُّ النظامِ القائم مع الاقتصاد.
ح- تَفَجُّرُ الأزمةِ الاقتصاديةِ في عهدِ الحداثة ليس محضَ صدفة. فهذه الأزمةُ متعلقةٌ بِتَضادِّ النظامِ القائمِ مع الاقتصاد، ومُتَّسِمةٌ بالبنيوية. التوازنُ البيولوجيُّ يتحقق أساساً من خلالِ العلاقاتِ التكافلية (العيش بالتغذية المتبادَلة) بين الأنواع. والنصيبُ البيولوجيُّ الذي حَظِيَ به الذكاءُ الكونيُّ قد أَمَّنَ ترتيباً كهذا. كنا قد حاولنا تعريفَ الحياةِ على أنها تَحَقُّقُ وتَطَوُّرُ التبايُنات والاختلافات. والتوازنُ البيولوجيُّ مرتبطٌ بهذه القاعدة. هذا وكنتُ تَطَرَّقتُ إلى تَكَوُّنِ التبايُنِ وعلاقتِه مع الحريةِ وقابليةِ الاختيار. العالَمُ الأصغر (أصغر كَمِّيَّات الطاقة وجُسَيمات المادة وطُرودها) والعالَمُ الأكبر (جُزُر المادةِ والطاقةِ بالحَجمِ الفَلَكِيّ) يَعمَلانِ بنظامٍ مشابه. يَسُودُ العجزُ في التحقيق بشأن سَبَبِيَّةِ أنماطِ العلاقةِ المُحَقِّقَةِ للتبايُنات. نَكتَفي حالياً بالقول «هي هكذا لأنها هكذا». فربما عدمُ كفايةِ مَعرِفَتِنا، ومفهومُنا العلميُّ الخاطئُ يُسَبِّبان العجزَ عن استيعابِ الحقيقة.
طبيعةُ الإنسانِ الاجتماعيةُ خاضعةٌ لهذه القاعدةِ الكونيةِ في علاقاتِها مع البيئة. وفي الوقت نفسه هو النوعُ الأرقى في قابليته للحريةِ والاختيار، بسببِ طبيعتِه المشحونةِ بالذكاء الأكثر مرونةً على الإطلاق. احتكاراتُ الرأسماليةِ المضادةُ للاقتصاد تتناقَضُ وهذه القاعدة. فكما أنها تُحَوِّلُ العلاقةَ التكافُليةَ إلى علاقةِ الحاكميةِ العظمى والسلطةِ والتحكمِ الأقصى ضمن بُنيةِ المجتمعِ الداخلية، فهي تُحَوِّلُ الأواصرَ الأيكولوجيةَ مع البيئةِ أيضاً إلى علاقةِ التحكمِ بالطبيعة واستعمارها. وهي تَستَعِرُ بإخضاعِها المجتمعَ والبيئةَ كلياً لحاكميتِها الأُحاديةِ الجانب، تماماً مثلما يُشاهَدُ في الطحالبِ المُميتة أو أي نوعٍ آخر شبيهٍ بها. هكذا تتحول إلى كائنٍ ضخمِ الجسد (اللوياثان). ذلك أن نظاماً معتمداً فقط على تُراكُمِ الربح – رأس المال لا يمكنه التصرف بشكلٍ آخر. ففي حالِ تَصَرُّفِه بالعكس، أي لدى عَمَلِه أساساً بالعلاقةِ التكافُلية، فإنّ قانونَ الربح لن يَعمَل، فيَغدو النظامُ القائمُ مضطراً للتحول.
الطبيعةُ أو البيئة قائمةٌ ضمن تَوازنٍ مع أنظمةِ مَنطِقِها الخاصِّ بها، على عكسِ ما يُعتَقَد. أما الحديثُ عن أَسْرِ القوى العمياء ، فهو تَقييمٌ خاطئ. فما يُدَمِّرُ هذه الحساسية، إنما هو نظامُ المدنية، بل والحداثةُ الاحتكاريةُ التَّحَكُّمِيَّةُ الراهنة بالأكثر. فالتَّعاظُمُ من النوعِ السرطانيِّ للطبقةِ الوسطى الصائرةِ قوةَ السلطة، والتضخمُ السرطانيُّ المشابه للمدن التي تُعَدُّ ساحةَ حياتِها الأساسية، ورَبطُ العالَم بسلسلةِ الدولة القومية؛ إنما هي الأسبابُ الاجتماعيةُ الحقيقيةُ للدمارِ المُطَبَّقِ على البيئة. حيث تؤدي إلى هذا الدمارِ من خلالِ تَضادِّها مع بُنى الطبيعةِ الاجتماعيةِ المشحونةِ بالذكاء الأمرَنِ من جهة، وعبر تحويلِ علاقاتِها التكافُليةِ مع البيئة إلى علاقاتِ تَحَكُّمٍ واستعمار من الجهة الأخرى. لهذا السبب، ثمة صِلَةٌ وثيقةٌ للغاية فيما بين الأزمة الاجتماعية (أو بالأصح الإبادة المجتمعية) والأزمة الأيكولوجية. فالأزماتُ في كِلا الميدانَين تُغَذِّي بعضَها بعضاً باستمرار. فبينما يؤدي الربحُ الاحتكاريُّ بالضرورة إلى زيادةِ السكان والبطالة والمجاعة والحرمان، فالتَّضَخُّمُ السكانيُّ نفسُه يصبح مُرغَماً على التوجه صوب تدمير البيئة بغرضِ التغلب على البطالة والفقرِ والمجاعةِ التي يعاني منها. هكذا يُحيقُ الخطرُ الكبيرُ بعالَم الغابات والنبات والحيوان.
لا شكَّ أنّ هذا الوضعَ يَعُودُ على الاحتكارات بمزيدٍ من الربح. ومع استمرارِ الدوامة (كأنْ يَصِلَ التعدادُ السكانيُّ عشرَ مليارات أو أنْ يتضَخَّمَ أكثر على سبيلِ المثال)، يَختَلُّ توازُنُ العالَم في التَّحَمُّل. هكذا تتحققُ القيامةُ المُرتَقَبة. فكما يُخطِئُ الشكلان السليمُ والسرطانيُّ للتضخُّمِ على مستوى الخلية، ويُؤَدِّيان إلى السرطان والموت، فتَضَخُّماتُ الربحِ الاحتكاريِّ أيضاً تُعيقُ التعاظُمَ السليمَ فتُؤَجِّجُ وتُثيرُ التطورَ السرطانيَّ الاجتماعيَّ والبيئويَّ بمنوالٍ مشابه (على جميعِ مستوياتِ الطبيعةِ الاجتماعية). علماً أنه يمكن طبياً إيضاح كيفيةِ تَطَوُّرِ أمراضِ السرطانِ البيولوجيِّ لدى النوعِ البشريِّ كحصيلةٍ لهذه السرطانات الاجتماعية. قابليةُ الحرية والاختيار لمخلوقٍ ذي ذكاءٍ مرموقٍ ومَرِنٍ كالنوع البشري، ليست أقلَّ درجةً مما لدى النمل، بكل تأكيد. فهل شُوهِدَ النملُ عاطلاً عن العمل، كي يَبقى البشرُ عاطلين عنه بذكائهم الموجود؟ في حالِ عدمِ اقتفاءِ قانونِ الربح، فالترتيباتُ الأيكولوجيةُ بمفردِها تتميزُ بإمكاناتِ استخدامٍ قادرةٍ على إزالةِ البطالةِ كلياً من الميدان. فبينما يؤدي الاستخدامُ ذو الهدف الأيكولوجي إلى إنقاذِ البيئة، فهو من الجانب الآخر قادرٌ على وضعِ حدٍّ نهائيٍّ فاصلٍ للبطالةِ أيضاً. وبالمستطاع العثور على المئات من هكذا ساحات. لكنها تبقى محرومةً من الاستخدام، كونَها غيرَ مُربِحة حسبَ قانون الربح الأعظمي. العلاقةُ بين الطابعِ الأيكولوجيِّ والنظام القائم متأزمةٌ ومستحيلةُ الاستمرار.
خ- الليبراليةُ، التي هي أيديولوجيةُ النظامِ المهيمنة، لا تُنتِجَ الحلَّ، سواءً بشكلها الكلاسيكي أو المُحدَث. الليبراليةُ، التي تعني مذهبَ الحرية من حيث الكلمة، مصطلحٌ ذو نسبيةٍ كثيفة. فالعبوديةُ هي الشكلُ المضادُّ للحرية، والذي يَنعكسُ على فردٍ أو مجموعة. فالحريةُ القصوى للمُلوكِ – الآلهة في العصور القديمة قد خَلَقَت مضادَّها على شكلِ طبقةِ العبيد. والحريةُ لأجل بيروقراطيةِ العصور الوسطى لم تُصبحْ ممكنةً إلا بعبوديةِ حشودٍ غفيرةٍ من القرويين – الأقنان. أما الليبراليةُ لأجلِ بورجوازيي العصر الحديث، فقد سارت بالتداخل مع الحدِّ الأدنى للأَجرِ لشرائحِ البروليتاريا الواسعة النطاق ولأشباه البروليتاريا وغيرهم من الكادحين كنوعٍ جديدٍ من العبيد. بينما الليبراليةُ بمعناها الرسمي عَنَت الحريةَ بالنسبةِ لكافةِ طبقاتِ الدولةِ القومية، فهي تعني البطالةَ والعملَ المجانيَّ والفقرَ المدقعَ والمجاعةَ واللامساواةَ واللاحريةَ وغيابَ الديمقراطيةِ بالنسبة للمواطِنين الذين هم عبيدٌ عصريون. ينبغي الرؤية جيداً أنّ الليبراليةَ لا تعني النزوعَ للحريةِ بالمعنى الحقيقي. كان هيغل قد اعتَبَرَ الدولةَ أفضلَ أداةٍ للحرية. ولكن، انبَسَطَ للعيان أنّ هذه الحريةَ تَسري على طبقاتِ الدولةِ وبيروقراطيتها فقط. بمعنى آخر، فالحريةُ القصوى بالنسبة للاحتكاراتِ الاقتصاديةِ والسلطوية (النُّخبة)، تعني شتى أنواعِ العبوديةِ لأجل جميع الآخَرين.
تعريفُ الليبراليةِ كأيديولوجيا يتميزُ بأهميةٍ بالغة. فالقولُ بأنها جنوحٌ إلى الفرديةِ والحرية، أمرٌ ناقصٌ لأجلِ التعريف. لقد بَرَزَت الليبراليةُ كمصطلَح تماشياً مع مصطلحَي المساواةِ والأُخُوَّةِ في الثورةِ الفرنسية على شكلِ الشعارِ الشهير: الحرية، المساواة، الأخوة. وكاصطلاحٍ مركزيٍّ، فقد وَجَدَ المحافِظين على يمينه، والديمقراطيين أولاً ثم الاشتراكيين على يساره. واتَّخَذَ لنفسِه مظهراً معتدلاً من قَبيلِ تطويرِ النظامِ القائمِ (الاحتكارية الرأسمالية) بالتطورِ الطبيعيّ، دون الشعورِ بالحاجةِ للثورات. أما المحافِظون، فقد كانوا ضد التطوير، سواءً بالثورة أو بالتطور التدريجي. حيث كانوا يَستَميتون في الدفاع عن المَلَكِيّةِ والعائليةِ والكنيسة. بينما الاشتراكيون والديمقراطيون كانوا يَرَون الثورةَ ضرورةً مُلِحَّةً لأجل تغييرٍ أسرع. أما القاسِمُ المشتَرَكُ للجميع، فكان الحداثة. فالجميعُ كان يرى نفسَه طَموحاً وعازماً على تحديثِ نفسِه، ولو كان لبعضِهم نقاطُ تَّحَفُّظٍ واعتراض. وبالخطوطِ العامةِ جداً، فالعيشُ مروراً بالتحوُّل كان كافياً لأنْ يَكُونَ عصريّاً. الحياةُ العصريةُ الأوروبيةُ المركز، والمَرصوفةُ أرضيتُها بالتمدن، والمتسارعةُ مع النهضة والإصلاح والتنوير؛ كانت تُمَثِّلُ الأفقَ المشتركَ للأيديولوجياتِ الثلاثِ الرئيسية. كانت القضيةُ مَعقودةً على مَن الذي أو الذين، أو أيٌّ مِن الأيديولوجيات أو الأحزاب أو الأساليب أو أشكالِ التطبيق أو الممارسات أو الحروب سوف تَبلُغُ هذا الأفقَ بأفضلِ الأشكال.
شَخَّصَت الليبراليةُ هذا الوضعَ بأجوَدِ الأشكال. ولَم تتأخر عن التلاعُبِ بمهارةٍ وحذق بالأيديولوجياتِ والبنى التي على يمينها ويسارها، إدراكاً منها أن الحداثةَ تَصاعدت بطابعٍ رأسمالي، وأنه بالمقدور تطويرها أكثر فأكثر. وقَسَّمَت نفسَها على شكلِ ليبراليةٍ يمينيةٍ ويسارية. فبينما حَوَّلَت المحافظين إلى جناحٍ منضوٍ تحت طياتِها بعد شلِّ تأثيرهم بوساطةِ الليبراليةِ اليمينية، فقد جَعَلَت الديمقراطيين والاشتراكيين قوةً احتياطيةً لها نسبياً بوساطةِ الليبراليةِ اليسارية. وهكذا تَرَبَّعَت هي في الموقعِ المِحوَرِيّ. وكلما تَرَكَّزَت الأزمة، كانت تَجعَلُ أحدَهما احتياطاً لها ماضيةً قُدُماً على طريقِ التوطُّد. وتَطَوَّرَ تَبَرجُزُ الأرستقراطيين وتصاعدت الديمقراطيةُ الاجتماعيةُ لشريحةٍ من العمّال المتنازِلين على مرِّ حُكمِ الأزمة. فحِصَّةٌ جزئيةٌ من الربحِ الاحتكاريِّ كانت كافيةً لذلك. بالتالي، فمُعارِضو النظامِ خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين لم يُشَلّْ تأثيرُهم وحسب، بل وكانوا قد أُسقِطوا في منزلةِ القوةِ الاحتياطيةِ لأجلِ إدارةِ البنيةِ المتأزمةِ في جميعِ المراحل. هكذا كانت تتأسسُ الهيمنةُ الأيديولوجيةُ لِلِّيبرالية.
استفادت الليبراليةُ من أربعةِ بدائل أيديولوجيةٍ هامةٍ في سبيلِ مواصَلةِ هيمنتِها الأيديولوجية.
1- استَثمَرَت القومويةَ بأفضلِ الأشكالِ تأثيراً. حيث كانت القومويةُ حليفَ الليبراليةِ المُفَضَّلَ، سواءً في شرعنةِ الحروب الداخلية والخارجية، أو في تكوينِ الأمة بِيَدِ الدولة. كانت تُشَكِّلُ الحلقةَ التوفيقيةَ المتمفصلةَ الأولى. وقد اكتَسَبَت خبرةً لا بأسَ بها في تذليلِ أشدِّ الأزماتِ استفحالاً من خلالِ تأجيجِ المشاعر القومية. وصُيِّرت القومويةُ أيديولوجيةً مقدسةً بمستوى الدين. وتحت هذا الغطاء، لم يتم التغلب بسهولة على الأزمات والاستمرار بها فحسب، بل وكانت الاحتكاراتُ من الجانب الآخَرِ قادرةً على إخفاءِ أنظمتِها الأشدِّ وطأةً في الاستغلالِ والقمعِ أيضاً بنفسِ الغطاء.
2- أُنِيطَت الأيديولوجيةُ الدينيةُ التقليديةُ بالدور القوموي. حيث أَضفَت الليبراليةُ الطابعَ القومويَّ على الأديان التقليديةِ في ظلِّ هيمنتها، بعد إفراغِها من خصائصها الأخلاقيةِ والسياسية. أو بالأحرى، لقد صَيَّرَتها ديناً قوموياً. ذلك أنّ صَبغَ المشاعرِ الدينيةِ التي تَكمُنُ جذورُها في أغوارِ المجتمعِ السحيقةِ باللونِ القومويِّ كان سهلاً، لِتُؤَدِّيَ مع القومويةِ نفسَ الدور، بل وأكثرَ لُحمةً. وأحياناً عُمِلَ على إنشاءِ الأمةِ اعتماداً على الأساسِ الاثني – الديني، بتَداخُلِ كِلتا الأيديولوجيتَينِ معاً. ونخصُّ بالذكر الأيديولوجيتَين اليهوديةَ والإسلاميةَ اللتَين تَطابَقَتا بسهولةٍ مع القوموية. ولَم تتوانَ الأديانُ الأخرى أيضاً (المسيحية، أديانُ الشرق الأدنى، والتقاليدُ الدينيةُ القديمةُ في أفريقيا) عن تَحَمُّلِ الوضعِ المُماثِل. هكذا كانت الليبراليةُ قد نَقَلَت الإرثَ الثقافيَّ المعنويَّ من خلال القناةِ الدينيةِ وأرفَقَته بالمدنيةِ الرأسماليةِ التي استَلَمَت الإرثَ الثقافيَّ الماديَّ من المدنية. لا يمكن غضَّ الطَّرْفِ عن دورِ الأيديولوجياتِ الدينيةِ القومويةِ المُضافةِ إلى الليبرالية في تَخَطّي أزماتِ النظامِ القائمِ، والبالغةِ أبعاداً لا تُطاق.
3- قَدَّمَت أيديولوجيةُ العلمويةِ الوضعيةِ مساهمةً وطيدةً لِلِّيبرالية، بوصفها بديلاً فلسفياً على وجهِ الخصوص. إذ أَدَّت الأيديولوجيةُ الوضعيةُ دوراً رئيسياً في التأثيرِ على الأيديولوجياتِ اليمينيةِ واليساريةِ معاً، مستَفيدةً في ذلك من الثقةِ القويّةِ بالعلومِ الطبيعية. حيث آلَت إلى تحريفاتٍ هائلةٍ بإلصاقِ عنوانِ العلمية على الأيديولوجيات بسهولة. وتَرَكَت بصماتِها على جميع الانطلاقاتِ الأيديولوجيةِ اليساريةِ خصيصاً. والاشتراكيةُ المشيدةُ كانت تتزعمُ ذلك في هذا المضمار، حيث أُسقِطَت في مصيدةِ الحداثةِ الرأسمالية بوساطةِ العلمويةِ الوضعية. أما في اليمين، فكانت الفاشيةُ في مقدمةِ التياراتِ التي تَستَمِدُّ قوتَها من العلمويةِ الوضعية. هكذا كانت الوضعيةُ تَمُدُّ الليبراليةَ بِطَيفٍ من الخَياراتِ الأيديولوجيةِ من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. وكانت الليبراليةُ تستفيد منها لأقصى الدرجاتِ في التغلبِ على أزماتِ النظامِ البنيويةِ، من خلالِ استثمارِ تلك الخَياراتِ بعدَ إرفاقِها بذاتِها في كل الشروطِ المكانيةِ والزمانيةِ اللازمة.
4- صُعِّدَت النزعةُ الجنسانيةُ واستُخدِمَت بالأغلب كعنصرٍ أيديولوجيٍّ تاريخياً في عهدِ الليبرالية. فالليبراليةُ التي وَرِثَت المجتمعَ الجنسانيّ، لَم تَكتَفِ بتصييرِ المرأة عامِلاً مجانياً في المنزلِ فقط. بل وأكثر من ذلك، استَولَت عليها بتبضيعِها وعرضِها في السوق كموضوعِ جنس. وبينما كان الكدحُ فقط مُبَضَّعاً لدى الرجل، باتت المرأةُ بضاعةً بكلِّ جسدِها وروحها. هكذا كان يُنشَأُ أخطرُ أشكالِ العبوديةِ في حقيقةِ الأمر. ذلك أنّ «زوجةَ الزوج» باتت تُشَكِّلُ موضوعاً لاستغلالٍ محدود، ولو أنها ليست صفةً حسنة. لكنّ التَّبَضُّعَ بكلِّ شخصيتِها، مفادُه استعباداً أسوأ من العبوديةِ لفرعون. فالانفتاحُ على العبوديةِ للجميع أخطر أضعافاً مضاعفةً من العبوديةِ لدولةٍ أو شخصٍ واحد. هذا هو الفخُّ الذي نَصَبَته الحداثةُ للمرأة. فالمرأةُ المنفتحةُ على الحريةِ ظاهراً، كانت ساقطةً إلى مستوى أرذَلِ أدواتِ الاستغلال وأَحَطِّها. فالمرأةُ أداةُ الاستغلالِ الأساسيةُ، بدءاً من أداتيتِها الدعائية إلى أداتيتِها الجنسيةِ والإباحية. يمكنني القول بكلِّ سهولة أنّ المرأة أُقحِمَت تحت أثقلِ عبءٍ في تَحَمُّلِ الرأسماليةِ واستمرارها.
تؤدي المرأة دوراً استراتيجياً بالنسبة للنظامِ القائمِ في الإكثارِ من الاستغلالِ والسلطة. فالرجلُ كممثلِ الدولةِ ضمن الأسرة يَعتَبِرُ نفسَه صاحبَ الصلاحياتِ والمسؤولَ عن ممارسةِ الاستغلال والسلطةِ معاً على المرأة. حيث تُحَوِّلُ كلَّ رجلٍ إلى جزءٍ من السلطةِ من خلالِ تعميمِ القمعِ التقليديِّ على المرأة، فتَظهَرُ على المجتمعِ بهذه الطريقةِ أعراضُ مَرَضِ التحوُّلِ إلى سلطةٍ قصوى. فوضعُ المرأةِ يَمُدُّ مجتمعَ الهيمنةِ الرجوليّةِ بمشاعرِ وأفكارِ السلطةِ اللامحدودة. من جانبٍ آخر، فثَمَنُ جميعِ السلبياتِ تَدفَعُه المرأةُ الكادحة، بل المرأةُ نفسُها؛ بدءاً من تَكَوُّنِ العامِل المتنازِل إلى البطالة، ومن ظاهرةِ العُمّاليةِ المجانية إلى العملِ بأبخسِ أَجر. أيديولوجيةُ الليبراليةِ الجنسويةُ التوفيقيةُ لا تَكتفي بتحريفِ هذا الوضعِ وإظهارِه مُغايِراً عما هو عليه، بل وتُحَوِّلُه إلى بدائل أيديولوجيةٍ مُصاغةٍ للنساءِ بِحرص. إنه أَشبَهُ بِفَرضِ تَقَبُّلِ عبوديتِها بِيَدِها. بالإمكان القول أنه باستغلالِ النظامِ للمرأةِ أيديولوجياً ومادياً لا يتغلبُ فقط على أَشَدِّ أزماتِه وطأة، بل ويُرَسِّخُ وجودَه ويَضمَنُه أيضاً. المرأةُ بمثابةِ أقدمِ وأحدثِ أمةٍ مستعمَرةٍ في تاريخِ المدنيةِ عموماً، وفي ظلِّ الحداثةِ الرأسماليةِ على وجهِ الخصوص. وإنْ كان هناك وضعٌ متأزِّمٌ من كلِّ النواحي، ويستحيلُ الاستمرارُ به، فإنّ حِصّةَ استعمارِ المرأةِ تتصدرُ أسبابَ ذلك.
يعاني النظامُ الرأسماليُّ العالميُّ في ظلِّ هيمنةِ الاحتكارات المالية العالمية من الأزماتِ المشتَرَكةِ الخاصةِ بالتمويل، بقدرِ معاناته من أزمةِ نظامِه العامة. أي أنّ أزماتِ النظامِ العامةَ (تنبع من تضادِّها مع الاقتصاد) والأزماتِ الخاصةَ بالتمويلِ والمالِ (المال الذي يتم تمثيله بمختلفِ الأدواتِ الوَرَقِيَّةِ الافتراضيةِ المنقطعةِ عن الإنتاجِ والذهب، بل وحتى عن الدولار) تسيران بشكلٍ متداخلٍ وفي مرحلةِ الحضيضِ من تاريخها. كان النظامُ قد تَخَطَّى أزماته أساساً بطريقَين حتى الآن. أَوَّلُهما؛ عبر أجهزةِ العنفِ الماديِّ للسلطة والدولة القومية المتكاثرةِ باستمرار. وهي تَشمَلُ شتى أنواعِ الحروب والسجونِ ومشافي المجانين والمستشفيات والتعذيب والغيتوهات وأخطر أشكالِ الإبادات العرقيةِ والإباداتِ المجتمعية. ثانيهما؛ عبر التمفصلِ والإرفاقِ المتواصل مع أجهزةِ الهيمنةِ الأيديولوجيةِ الليبراليةِ المُتطَوِّرة. فعلى الصعيدِ الأيديولوجي هي في المركز مع مُلحَقاتِها القومويةِ والدينَويةِ والعلمويةِ والجنسوية. أما على الصعيدِ الأداتي فهناك المدارس، الثكنات، أماكن العبادة، أجهزة الإعلام، الجامعات، ومؤخّراً شبكاتُ الإنترنت. هذا وينبغي إضافة تصيير الفنِّ صناعةً ثقافيةً إلى ذلك أيضاً.
لكنّ رجالاتِ العلم العاديين بذاتهم يُقِرُّون بأن كِلا الطريقَين يشتملان على معنى يدل على تطويرِ حُكمِ الأزمةِ بدلاً من إيجادِ الحل. ولا تُذَلَّلُ الأزماتُ ومراحلُ البُحرانِ، ولو بقدرِ الماضي. بل، وعلى النقيض، فبينما تُصبِحُ الأزماتُ ومراحلُ البُحرانِ الاستثنائيةِ حالةً عامةً مستمرة، فالمراحلُ الطبيعيةُ تغدو استثنائيةً، لِتَتَبَدَّلَ المواقعُ بهذه الطريقة. بينما تَكمنُ عناصرُ الأزمةِ في أساسِ أنظمةِ المدنية، فالمجتمعُ البشريُّ لم يَكُ قد شَهِدَها بهذه الوطأةِ بتاتاً. وإنْ كانت المجتمعاتُ ستُواصِلُ مسيرتَها فهي غيرُ قادرةٍ على تَحَمُّلِ أشكالِ حُكمِ الأزمةِ على المدى الطويل. فإما أنْ تَنهارَ أو تتناثر. وإما أنْ تُقاوِمَ وتتغلبَ عليها بتطويرِ أنظمةٍ جديدة. ونحن الآن نمرُّ بمرحلةٍ كهذه.