السلطة والدولة
يطغى طابع القوة والشدة على تقاليد الدول في منطقة الشرق الأوسط، وتقوم بالتصدي وتصفية كل المساعي والحركات التي تضادها.
ويمكننا أن نصادف هذا الوضع بكثرة في تاريخ المنطقة، وعلى وجه التحديد في مقاربات الأكاديين وبشكل خاص في عهد النارمسيين ضد دول العيلام حيث نرى القتل وبناء قلاع من رؤوس الناس الذين تم قتلهم. كما أن هذا الأمر يظهر بشكل واضح في مذكرات الملوك الآشوريين حين يتحدثون فيها عن بطولاتهم في قتل شبان الأوطان والجماعات الأخرى، وكيف أنهم بنوا قلاعاً من رؤوس الناس الذين تم قلتهم وكيف قاموا بصنع قلائد من رؤوس الأشخاص وكيف قاموا باستعباد الجماعات الأخرى، وكيف قاموا باستخراج موتاهم من المقابر التي دفنوا فيها، فكل هذه الأمور انتقلت إلى يومنا الراهن بشكل كتابي. هذا الميراث مازال يصون صيرورته حتى في يومنا الراهن عبر المجازر والإبادة والتصفية في كل من تركيا وإيران وسوريا والعراق من خلال استخدام القوة والعنف والقتل حتى بالأسلحة المحرمة دولياً. بهذا الشكل استمر أو صان هذا الميراث صيرورته في يومنا الراهن، ويأتي هذا من الخصوصية الإلهية التي أعطيت للدولة، ففي الشرق الأوسط عندما نقول الخصوصية الإلهية هذا لا يعني أننا نتقبلها، فالبعض يقول إن الدولة هي الإله، أي أن الإله يعدل بين البشر ويطبق المقاييس والقوانين بينهم لأن الإنسان لا يستطيع القيام بذلك لهذا أوجدت الدولة. مثل هذه التحليلات بعيدة كل البعد عن المنطق والعقل. إلا أن الدول في الشرق الأوسط تستمد مشروعيتها من الآلهة، حيث نرى بأنها ولبسط سلطتها أوجدت في البداية ملوكاً آلهة ومن ثم ملوكاً خادمين للآلهة أي مرتبطين بالآلهة ومن ثم الأنبياء والخلفاء فكل هؤلاء لهم قدسية الآلهة، لهذا السبب كانت تعتبر أي ردة فعل تجاههم هي تجاه الآلهة وتعتبرها حجة من أجل إعطاء الشرعية للضغط والقوة التي تقوم بفرضها. أي أنها تبرر كل أعمالها وتصرفاتها وممارساتها على أنها من أجل الحماية والدفاع عن حكم الآلهة. فالدولة عندهم كانت تمثل العدالة والقانون وكل شيء، فمن يخالف الدولة أو يتمرد عليها يستحق أقسى أنواع القصاص لأنه اقترف ذنباً، كما يقومون بالتشهير به كي يصبح عبرة للأجيال التالية، وكي لا يتجرأ أحد من الأجيال التالية حتى في التفكير بمناهضة الدولة والتصدي لها. إن هذا النوع من التشهير الباطل والخيانة والكفر وبكل أنواع التواطؤ والتشهير بجميع الحركات التي ناهضت الدولة ساهم في إكساب الشرعية للمجازر من ناحية ومن ناحية أخرى أصبحت عبرة للشعوب لتقبل بقدرها ومصيرها وتقبل الظلم المفروض عليها وقبول هذه الممارسات كقانون إلهي وقدر محتوم عليهم.
ففي يومنا الراهن نلاحظ بأن الدولة في الشرق الأوسط تزداد استبداداً أكثر من ذي قبل، ونلاحظ هذا بشكل خاص عندما نريد معرفة الوضع الذي تعيشه المعارضة، أي أن افتقاد المعارضة للتنظيم والإرادة والقوة يوضح هذه الحقيقة. فعدم وجود معارضة ليس دليلاً على عدالة الدولة وأن الدولة قد حققت العدالة الاجتماعية وتقوم بالتقرب من الجميع بشكل عادل. فعدم وجود معارضة نابع من الممارسات التي فرضت عليها على مر التاريخ أي أنها بتلك الممارسات كالقتل والنفي والسجن قبلت الاستسلام وقبلت بمصيرها. فمثلاً لا توجد أية معارضة في كل من تركيا وسوريا وإيران والعراق، إلا أنه في هذه الدول التي تم ذكرها نرى الكثير من المقابر الجماعية. فهذه المقابر تظهر وبشكل واضح أنه تمت تصفية كل محاولة مقاومة ضد الدولة لتحطيم إرادة المقاومة ضد الدولة.
يمكننا ذكر أمثلة عدة حول المقاومة أو النضال ضد الدولة وعلى وجه الخصوص في منطقة الشرق الأوسط لا سيما أن هذه المقاومات التي ظهرت ملفتة للانتباه جداً. فمثلاً سبارتكوس ثار أو قاوم روما قبل ألفي عام، حيث قام بتنظيم العبيد وحثهم على المطالبة بحقوقهم إلا أنهم لم ينجحوا في ذلك، حيث تم قتل قسم منهم وأسر آخرين وتم التخلص منهم عن طريق التعذيب والصلب. هذه الثورة عرفت كثورة العبيد في العديد من الأفلام والقصص والروايات، حتى أن هذه الحركة جددت في الغرب حيث سمي الحزب الشيوعي الحقيقي لوزا لوكسمبورغ في أوروبا وخاصة في ألمانيا أبان الحرب العالمية الأولى باسم سبارتاكوس أي أن الحزب الشيوعي سمى نفسه بحزب سبارتكوس. بهذا الشكل سعوا إلى تجديد تلك المقاومة من جديد. أي أنهم في الغرب استطاعوا تجديد ميراث تلك المقاومة التي ظهرت من قبل الرقيق والعبيد والقرويين والحركات الاجتماعية ضد الدولة من جديد. أي أن الكتاب والحركات والأحزاب الشيوعية واليسارية استطاعوا إحياء ذاك الميراث على الدوام في نفوس الناس. أما في منطقة الشرق الأوسط وعلى الرغم من أمثلة المقاومة التي تفوق مقاومة سبارتكوس من ناحية الشمولية والمدة ومازال ذاك الميراث يصون ذاته في بعض المناطق إلى يومنا الراهن، إلا أنه لا يمكننا تحديثها كثيراً أي جعلها تتماشى مع روح العصر حتى أنه في بعض المناطق لا يمكننا تبني ذاك الميراث، وذلك نابع من التشهير بها من قبل الأيديولوجية الرسمية والنظام الرسمي للدولة، أي أنه نتيجة تلك الممارسات المفروضة تم إظهارها بشكل عكسي أي تم قلب الحقائق رأساً على عقب فالصحيح أصبح خاطئاً والخاطئ أصبح صحيحاً. ويتم فرض هذا باسم علماء الإسلام أصحاب الكلمة على المجتمع كالشيوخ ورجال الدين والطرق المختلفة والعديد من الشخصيات ذات الصيت، أي أنه تم اعتبار تبني ذاك الميراث جرماً من قبل الأيديولوجية الرسمية، لهذا السبب لا يمكن تحديثها في يومنا الراهن، فهذا خطأ ينبغي التركيز عليه والبحث والتعمق في هذا الموضع أكثر، وإحياء هذا النضال ضد الدولة.
ظهرت مثل هذه الحركات على وجه الخصوص في العهد العباسي، حيث استفاد منها العباسيون في العهد الأموي ووصلوا عن طريقها إلى السلطة ولكن فيما بعد ولدت حركات ضد العباسيين أنفسهم، ومنها حركة القرامطة والزنجيين وحركة بابك والخراسانيين وكلها حركات ولدت ضد الدولة على أساس تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الظلم والاستبداد، ولكن الأقاويل التي تقال اليوم عن الشيوعيين كانت تقال عن تلك الحركات أيضاً. فالأشعار التي كتبت عنهم والتحليلات التي تمت عليهم والمدونات التي دونت ضمن التاريخ الرسمي بحقهم ساهمت في تحريف حقيقتهم.
فعندما بدأت الحركة الشيوعية في الشرق الأوسط باستهداف الامبريالية لعبت بعض الحركات الدينية دورها في التشهير بهذه الحركة على أنها حركة سيئة وتعمل على جعل كل شيء مشترك جماعي وحتى المرأة، وأنها تفتقد إلى الأخلاق والكرامة، بهذا الشكل سعوا إلى تحريف الشيوعية وتشويهها. لهذا السبب يقول ماركس أنجلز في كتاب مانيفستو الحزب الشيوعي «يقول البرجوازيون عنا؛ بأننا سوف نفرض الملكية العامة على المرأة أيضاً، هذا صحيح؛ لأنهم يفكرون حسب منطقهم، لأنهم ينظرون إلى المرأة كمادة يتم امتلاكها، ونحن نسعى إلى تحويل الملكية الخاصة إلى ملكية عامة أي يصبح كل شيء عائداً للمجتمع، لهذا السبب يقولون هذا. لماذا؟ لأنهم يفكرون وفق منطقهم الذي يرى ويتطرق إلى المرأة كمادة وكشيء يتم امتلاكه. يتابع ويقول «إننا لا نرى ولا نتطرق إلى المرأة كملكية، فعندما تنتهي الصراعات الطبقية وينتهي الفقر حينها لن تبقى تلك الأسباب لتقوم المرأة بعرض أجزاء من جسدها لتأمين قوتها. وبهذا الشكل تتحرر المرأة». ففي منطقة الشرق الأوسط تتم الدعاية ضدهم على هذا المنوال منذ ما يقارب المئة عام أي منذ عام 1920 عندما دخل الفكر الشيوعي المنطقة. فهذه الدعاية ذاتها الهادفة إلى التشهير تم التطرق لها قبل ألف عام أيضاً لتشويه صورة الحركات الاجتماعية التي ولدت في تلك الفترة ضد القرامطة وضد الزنجيين وضد البابكيين وضد الخراسانيين وضد العلوين ومازالت مستمرة إلى يومنا الراهن، أي أنه يتم تطوير مثل هذا النوع من الدعاية البعيدة كل البعد عن الحقيقة والتي تعادي الحقيقة لتهيئة وخلق الأرضية لارتكاب المجازر الإبادات الجماعية ضد الشعوب ولا شيء آخر.
تطورت الحركات الاجتماعية في العصر العباسي إلى جانب الحركات المعرفية. ومن هذه الحركات حركة القرامطة؛ التي تشكلت عام 250 للهجرة أي في القرن التاسع الميلادي، بقيادة حمدان الأشعث القرمطي. تأسست الحركة لسبين أولاً تفكك نظام الدولة وضعفها وانهيار النظام السياسي في الإمبراطورية العباسية، وثانياً وهو الأهم تشكلت من أجل إحلال العدالة الاجتماعية المعدومة ضمن النظام السياسي القائم، أي أن عدم وجود عدالة اجتماعية كان السبب في قيام هؤلاء الأشخاص بهذه الحركة. فهي حركة كومينالية تطورت على أساس المساواة، وحاربت الإمبراطورية العباسية، وحكمت في عدة مناطق من الخليج العربي كالبحرين وعمان والإمارات، وقد أنهت حكم الإمبراطورية العباسية بحروب مدهشة عظيمة. حيث كان عدد مقاتلي القرامطة في بعض المعارك قرابة ألفي جندي مقابل ثمانين ألف جندي للعباسيين ورغم هذا العدد تم دحر جيش العباسيين وبهذا الشكل توسعوا لاقتناعهم وإيمانهم التام بنظامهم الاجتماعي إلى جانب افتقاد الامبراطورية للقدرة على دفع الجنود إلى الحرب والانتصار نتيجة الخراب والفساد في نظام السلطة العباسية التي ساهمت بدورها في عدم تمكن ثمانين ألف مقاتل من هزيمة ألفي مقاتل من القرامطة. لقد استطاعوا فرض سيطرتهم على دول الخليج بشكل خاص، فهم لم يعيروا الاهتمام الزائد للعديد من الأمور وحتى الفرائض الدينية، فعلى سبيل المثال لم يكن لديهم اهتمام بفريضة الحج أي أنهم لم يكونوا من مؤيدي فكرة الحج وحتى أنهم لم يكونوا يريدون من أحد الحج أيضاً، كما أنهم قاموا في فترة من الفترات بنقل الحجر الأسود من الكعبة إلى مكان آخر أي أنهم أخفوه، لماذا؟ لأنهم كانوا يرون بأن تربية وتبني الأيتام وإطعامهم أكثر ثواباً من الحج، إلا أن محاكمة قائد الحركة تمت على أساس نشر هذه الفكرة وعلى أساسها حكم عليه بالإعدام، لأن الحج ركن أساسي من أركان الإسلام وهو واجب على كل من يستطيع. أي أنهم قاموا بتحليل الإسلام والدين من جديد أي قاموا بانتقاد النظام الاجتماعي الموجود وقدموا النظام البديل عنه في مناطق الخليج العربي كالبحرين وعمان وفيما بعد بلاد الشام، وحكموا لمدة ثلاثين عاماً في هذه المناطق، إلا أن حملات التشهير التي تمت ضدهم والانشقاقات التي تمت ضمن صفوفهم والهجوم المستمر للدولة عليهم وفيما بعد وبمساعدة العثمانيين استطاعت الدولة العباسية تصفية تلك الحركات الاجتماعية، إلا أن آثار ذاك النظام الاجتماعي مازالت موجودة في تلك المناطق كعمان والبحرين وغيرها من المناطق الأخرى حتى الآن، إلا أنه تم إبرازها في التاريخ الرسمي بشكل مسيء أي مشوه، حتى يمكن القول بأن تلك القوى التي سعت إلى تشويه صورة تلك الحركات هي نفسها غير قادرة على الادعاء بأن تلك الحركات لم تكن حركات للمساواة والعدالة، فهم أنفسهم يقولون إن تلك الحركات نشأت على أساس العدالة والمساواة ولكنهم سعوا إلى التشهير بها من خلال التطرق إلى المساواة بالادعاء بأن تلك الحركات تسعى وتهدف إلى تقسيم وتشارك كل شيء فيما بينهم حتى من ناحية الأخلاق والعلاقات بين الأب والابنة وعلاقة الأم مع الابن. فلا صحة لأي ادعاء من هذا القبيل، إلا أنهم حللوا الإسلام من جديد، ولم يتخذوا الكثير من الأمور الخاطئة في الإسلام أساساً لهم، عوضاً عن ذلك كانوا يقبلون الإسلام كقوة أخلاقية ثقافية تستند إلى العدالة الاجتماعية، فلم يكونوا يعادون الله ولا الرسول ولا يشركون بالله، وكانوا يقبلون الدين الإسلامي وكانوا يقيمون الصلاة والصوم ولكنهم لم يتخذوا بعض الأمور الأخرى أساساً لهم كنظام رسمي.
أكثر الحركات الطبقية لفتاً للانتباه من ضمن تلك الحركات هي الحركة التي ولدت ما بين عامي 869 و883، والتي دامت ثلاث عشرة سنة حول مدينة البصرة، بقيادة علي بن محمد الفارسي الأصل. لأن الدولة كانت دولة إسلامية أي أنه كان بإمكان الشخص العربي العيش في المكان الذي يريده وغير العربي أيضاً كان بإمكانه العيش في الدولة العربية. هذا الشخص كان مهتماً بالشعر والخطابة والأدبيات والثقافة وكان متابعاً للإدارة السياسية عن قرب وبقي في القصور العباسية ومن ثم انفصل عنهم ليقف وبشكل خاص ضد الممارسات التي كانت تفرض على الرقيق العبيد. لأن هذه الحركة ولدت لمناصرة العبيد وسميت هذه الثورة بثورة الزنج. إلا أن من قاموا بهذه الثورة لم يكونوا الزنوج فقط إنما كانت تتضمن العرب والفرس، أي أنها لم تكن ثورة للعبيد فقط إنما كانت ثورة للقرويين وفئات الشعب الأخرى أيضاً. بدأت هذه الثورة في أطراف البصرة في تلك المناطق التي كان يتم استخدام العبيد فيها من أجل تجفيف المستنقعات الواسعة المتشكلة من تلاقي نهري دجلة والفرات وتحويلها إلى أراضٍ زراعية. فهم قاموا بالثورة ضد هذا العمل القاسي والشاق الذي كان يتم فرضه عليهم. أي في هذه المنطقة قام علي بن محمد بهذه الثورة ليرفض هذا الظلم المفروض لأنه لم يكن يرى أية علاقة بين استغلال الرقيق وفرض هذا الظلم والإسلام. لذا جمع العبيد والقرويين حوله وبنى بجانب البصرة مدينة ليقف ضد الامبراطورية العباسية التي حاولت تصفيتهم، إلا أنهم بعددهم القليل المستند إلى النضال العظيم والجرأة القوية استطاعوا قهر الجيش العباسي الكبير، فبالتكتيكات العسكرية التي كانوا يتبعونها كانوا يفشلون ويكسرون هجمات الجيش العباسي عليهم وتعاظمت قوتهم إلى أن شكلوا دولة لم تكن تشبه الدولة العباسية ولكنها كانت دولة كومينالية تقوم على المساواة بعيداً عن الظلم والخنوع، فكل شخص كان يعمل لنفسه. لذلك نلاحظ أن الأماكن أو المناطق التي تتواجد فيها الديمقراطية والمساواة توجد فيها الجرأة والقوة والنجاح. بهذا الشكل وسعوا رقعة دولتهم في أطراف البصرة في العراق وكانت الامبراطورية العباسية تتراجع وتتقلص قوتها لهذا السبب. ولتصفية هذه الثورة والحركة قام الخليفة العباسي بالاتفاق مع قائد الدولة الفاطمية في مصر للقضاء على هذه الثورة «ثورة الزنوج» على أن يتم تعيينه حاكماً على تلك المنطقة «البصرة»، على هذا الأساس توحد هذا القائد العسكري مع الجيش العباسي الكبير وتمت تصفية هذه الحركة ولكن بعد حرب طاحنة معهم والتي أدت إلى مقتل مئتين وخمسين ألف شخص حتى تمكنوا من تصفية ثورة الزنج التي أدارت تلك المنطقة بالمساواة والعدالة الكومينالية ثلاثة عشر عاما.
بالطبع مقابل هذا استمر نضال الحركات في أذربيجان وخراسان فحركات أبي مسلم وبابك هي الأخرى قاومت لإحلال المساواة والعدالة الاجتماعية مقابل الدولة المركزية، إلا أن جميع هذه الحركات فشلت، واستمر ميراث هذه المقاومة حتى في عهد الإمبراطورية العثمانية بأشكال مختلفة، ولكنها فشلت بشكل عام. فخصوصية الدولة كانت تلعب دوراً أساسياً ومهماً في فشل تلك الحركات الاجتماعية. تلك الدولة التي ترى نفسها مبشراً وقديساً وتحكم بشريعة الرب وتتخذ كتاب الله وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم أساساً لها ضمن مجتمع إسلامي، وبقوتها التشهيرية وبشكل خاص من الناحية الأخلاقية ضد هذه الحركات وبتجميع القوة العسكرية وفي الكثير من الأحيان عن طريق الخيانة والعمالة استطاعت تصفية كل هذه الحركات وإغراقها في بحر من الدم وتدوينها في التاريخ بصورة مشوهة، وهذا بدوره أثر بشكل سلبي وأضعف روح المقاومة في المنطقة وقوّى روح تقديس الدولة وأبديتها والتبشير بها.
نحن نتطور كحركة اجتماعية ضمن المنطقة، فإن ناضلت هذه الحركة الاجتماعية من أجل السلطة لا يمكن لها تحقيق النصر والنجاح في نهجها. ولا سيما أن كلاً من الإمبريالية والقوى المحافظة تسعى لتوجيه الحركات الاجتماعية في الشرق الأوسط إلى السلطة. أي إقناع أو إرضاء الحركات الاجتماعية من خلال إشراكها في السلطة. فهي على سبيل المثال تسعى لإظهار الديمقراطية ومتطلباتها ليس كحاجة اجتماعية إنما كصراع للتشارك في السلطة. وبهذا الشكل وعلى وجه الخصوص عندما يتم إرضاء أو إقناع قادة الحركة الاجتماعية ببعض الحصص في السلطة تصبح الثورة ضد نفسها. لذلك علينا مناقشة الدولة بشكل جيد، فإن لم تتم مناقشتها بشكل جيد فلن نستطيع منع القوى الامبريالية والمحافظة من النجاح في خداع الحركات الاجتماعية، أي أنها تقوم بهذه اللعبة لمنع إحداث أي تغيير أو تطور ضمن الشعوب. لهذا السبب ينبغي التعرف وتحليل الدولة بشكل جيد. إذاً فالحركات الاجتماعية هي من أجل تأمين ساحة لتنظيم المجتمع وليس من أجل نيل مكانة أو المشاركة في السلطة أي أنها تقوم بدفع المجتمع ليقوم بإدارة نفسه بنفسه على أساس العدالة والمساواة وليتحول المجتمع إلى مجتمع يقوم بإدارة نفسه على أساس مصالحه، لأن المجتمع في الشرق الأوسط وجميع عناصره من الأطفال والمرأة والشباب والمجموعات الحرفية هم وسائل لتحقيق هدف الدولة فقط. لنتعرف كيف تتم تربية الأطفال والمرأة والشباب الذين يعتبرون القوة الديناميكية والأساسية للمجتمع، حيث نرى بأنه تتم تربيتهم وتنشئتهم على أساس حماية الدولة ومصالحها ويحولون لأدوات من أجل تحقيق أهداف الدولة فقط. فالشيء الواجب على الحركات الاجتماعية في الشرق الأوسط اتخاذه أساساً لها هو؛ الاقتناع بعدم صحة مثل هذه الأفكار وتدريب المجتمع كجوهر من أجل إدارة وتنظيم نفسه ضمن إطار مصلحته وليس كآلة تخدم أهداف الدولة. ولهذا السبب فالحركات الاجتماعية التي تتطور على أساس مشاركة السلطة أو نيل حصة من الدولة هي حركة تخون نفسها وتخون مبادئها. ومعظم الحركات الاجتماعية في الشرق الأوسط خانت نفسها بهذا الشكل وانتحرت بالتدول والسلطة والدولة القومية. لهذا السبب فإن تأمين أو توفير أرضية لتنظيم المجتمع يحوز على أهمية بالغة فهذه قضية أساسية.
نلاحظ أن السياسة الديمقراطية هي السياسة غير المرتبطة بالدولة وغير المرتبطة بالسلطة، فوجود السياسة الديمقراطية هي الضمانة الأساسية لعدم خيانة الثورة لنفسها. فلو تمت الملاحظة نرى بأننا نتحدث في الكثير من النواحي عن السياسة الديمقراطية ولكن مقارباتنا السلطوية لا تستند إلى السياسة الديمقراطية وتقرباتنا السلطوية لا تعطي الضمانة الكافية لخيانة الثورة لنفسها. فالضمانة الوحيدة كي لا تخون الثورة ذاتها هي السياسة الديمقراطية. فالسياسة الديمقراطية ليست السياسة المرتبطة بالدولة إنما هي سياسة تأمين وتوفير القوة للمجتمع لإدارة نفسه. لهذا السبب علينا خوض نضال جاد ضد ثقافة السلطة والدولة وتطويرها بدون خجل أو تردد. إلا أنه حتى الآن، مع الأسف، انتقاداتنا ضد الدولة تبقى خجولة ويطغى عليها طابع من التردد وكأننا نقترف ذنباً عندما نقوم بانتقاد الدولة، لأن هناك قناعة منتشرة ضمن المجتمع أن الدولة الكردية تعني حرية كردستان واستقلالها إلا أننا ندعي العكس أي أن الدولة لا تجلب معها الحرية والاستقلال أبداً بل على العكس تماماً الدولة تجلب معها العبودية والرضوخ. ينبغي تحليل الدولة والسلطة ضمن هذا الإطار بشكل مناسب، ولكن هناك بعض الأشياء والأمور في يومنا الراهن لا يمكننا غض النظر عنها واعتبارها غير موجودة، لأنها تشكل واقعاً، أي لا يمكننا القول بأن الدولة غير موجودة أو التقرب منها وكأنها غير موجودة أو تجاوزها خلال فترة قصيرة جداً، فتجاوز الدولة لا يكون بشكل مباشر إنما سيتم بمراحل انتقالية. ولكن علينا أن نكون جادين بانتقادها وراديكاليين وأن نتحذ من تنظيم المجتمع أساساً في كل الأوقات وعلى الدوام. ومن أجل إظهار إرادتنا في الإدارة وإظهار إرادة المجتمع في تمثيل نفسه من الضروري انتقاد الدولة، لأن هذه الأمور لا تأتي مع الدولة لأن الدولة لا تكسب المجتمع الإرادة بل على العكس تماماً هي تفقده الإرادة، فالدولة تشكلت على أساس إفقاد المجتمع إرادته، ففي المجتمع ذي الإرادة تكون الدولة ضعيفة جداً أو معدومة، فالدولة تكون قوية في المجتمع المفتقد للإرادة، هذه الأمور من الواجب علينا التعمق فيها وبهذا الشكل الحفاظ على مبادئنا.
الشهيد رستم جودي