HPG

قوات الدفاع الشعبي الكردستاني

من الصعبِ صياغةُ تفسيراتٍ مفعمةٍ بالمعاني في علمِ الاجتماع، من دونِ القيامِ بتعريفِ المصطلحاتِ والنظرياتِ الأساسية.

فعلمُ الاجتماعِ بعيدٌ عن الإجماعِ في الرأيِ حتى بشأنِ تعريفِ ذاتِه. وليس من المعقولِ بذلُ الجهودِ في البحثِ عن الحسمِ والجزمِ في حقلِ علمِ الاجتماع، في الحين الذي تعاني فيه العلومُ بجميعِ حقولِها من الأزمة. ما يَلزمُ أساساً هو التعريفُ السليمُ للظاهرةِ الاجتماعية. فأنشطةُ معرفةِ المجتمعِ تتميزُ بإرثٍ زهيدٍ جداً في حقلِ المعنى، وبدرجةٍ أكبر مما يُظَن. حيث هناك مفارقةٌ من قبيلِ مزيدٍ من الغَوصِ في الجهالة، كلما زادَت المساعي لتعريفِ المجتمع. فبقدرِ ما يلعبُ المجتمعُ دوراً مصيرياً في تطوُّرِ الفردِ الإنسان، فهو يُعَدُّ أيضاً حجرَ عثرةٍ على دربِ تطوُّرِه، وبالمِثل. هذه هي المفارقةُ الاجتماعية. فالفردُ الذي يُزعَمُ أنّه حرٌّ في ظلِّ الليبراليةِ المُعَزِّزةِ للفردية، والفردُ الذي كَبَّلَته المشاعيةُ بقيودٍ وثيقة، هما فردان مُشَوَّهان بمعايير متشابهة، ومطرودان من الحياةِ بصفتِهما منفردَين بذاتِهما. هذا ومن غيرِ الممكنِ تعريفُ المجتمعِ اعتماداً على هكذا أفرادٍ مَرضى. وكم هو مؤسفٌ حقاً أنّ البشريةَ لَم تتخلصْ من تأثيرِ كِلتا الحالتَين حتى يومِنا الحاليّ. من هنا، فمدى القدرةِ على سلوكِ العلمِ وإنتاجِه بهذه المفارقةِ الاجتماعية، موضوعُ جدالٍ وسجالٍ إلى آخرِ درجة. ذلك أنّ الذكاءَ الذي يُعَدُّ شرطاً أولياً للتمكنِ من إنتاجِ العلم، لن يستطيعَ تحقيقَ قفزتِه، إلا بالتعبيرِ عنه من خلالِ المجتمع. إلا أنه يتمُّ قطعُ طريقِه بَعد خطوِ خطوةٍ أخرى إلى الأمامِ على يدِ هذا الكيانِ الاجتماعيّ. بالتالي، تبقى ظاهرةُ الحقيقةِ نِسبيةً إلى آخرِ حد. وفي هذه النقطةِ بالذات، تزدادُ العقيدةُ الدوغمائيّةُ أو الفكرُ القالبيُّ تصَلُّباً، ليغدوَ ذكاءُ الإنسانِ لامبالياً ويُدرِكُ الأمورَ خطأً بما يُضارِعُ ما هي عليه أكثرُ الكائناتِ الحيةِ تخلفاً. ولدى التفكيرِ بمدى استفحالِ المجتمعِ الدوغمائيّ، فإنّ نسبيةَ العلمِ تفرضُ وجودَها بدرجةٍ ملحوظة.

إلى جانبِ استحالةِ تجاوُزِ المفارقةِ الاجتماعيةِ كلياً، فمن الممكن تخطيها بحدود، والوصولُ بذلك إلى مستوى المعرفة. وقد يَكُونُ أقصى درجاتِ المعرفةِ في هذه الحالِ بصددِ الحياةِ نفسِها. فالحياةُ من حيث هي طبيعةٌ مُدرِكةٌ لذاتِها، قد تَجعلُ الموتَ بلا معنى. ولدى تساؤلِنا "متى يتوقفُ أو ينتهي صراعُ التوالدِ والمَأكلِ والمَأمنِ لدى الكائناتِ الحية؟"، فالجوابُ الأكثر حِكمةً يتجسدُ في الإشارةِ إلى أنّ ذلك يكمنُ في الإنسانِ باعتبارِه "الطبيعةَ المُدرِكةَ لذاتِها". وبإمكانِنا تسميةُ ذلك بالكونيةِ النهائيةِ أيضاً. بالرغمِ من الاعتقادِ بوقوعي في ذاتانيةٍ مُفرطة، إلا أنه بمقدوري القولُ أنّ كلَّ ما يُرى ويُدرَكُ ويُحَسُّ محدودٌ بالإنسانِ المتصفِ بالنسبية. بالتالي، فمدى نجاحِ الطبيعةِ المدرِكةِ لنفسِها على هذا النحو في تمثيلِ الكونية، هو موضوعُ جَدَلٍ إلى حدٍّ ما. ولكنّ وجودَ كونيةٍ خارجَ نطاقِ "الإنسانِ بوصفِه طبيعةً مدرِكةً لذاتِها" هو أيضاً موضوعُ نقاشٍ وسِجالٍ تماماً. هذا وبالإمكانِ القولُ أننا وَقَعنا مرةً أخرى في مفارقةٍ بالقولِ أنه: بقدرِ ما يَكُونُ الكونُ الكامنُ خارجَ حدودِ عقلِ الإنسانِ –الذي يُعتَبَرُ اختصاراً لجميعِ كائناتِ العالَمِ– موضوعَ جَدَل، فإنّ مدى تمثيلِ عقلِ الإنسانِ بذاتِه للكون، هو أيضاً موضوعُ جَدَل. لكنّ كاملَ نطاقِ الحقيقةِ مُؤَطَّرٌ ومُحاطٌ بهذه المفارقة. النتيجةُ الواجبُ استخلاصُها هنا، هي الطابعُ النسبيُّ للمعرفة، وعلاقتُه الوثيقةُ بالطبيعةِ الاجتماعية. بناءً عليه، لا يُمكن تجاوز الأزمةِ المستفحلةِ في عالَمِ العلم، إلا بالتركيزِ على الطبيعةِ الاجتماعية، وبعقدِ أواصرِها مع الطبيعتَين الأولى والثالثةِ بنحوٍ صحيحٍ وأخلاقيٍّ وجماليٍّ، وبمنوالٍ نسبيٍّ أيضاً.

 

أ‌-      الإطار الاصطلاحي:

 

ارتباطاً بموضوعنا، فقد يؤدي تعريفُ مصطلحَي "الثقافةِ" و"المدنيةِ" الأساسيَّين دوراً تسهيلياً وفاتحاً للآفاقِ فيما يخصُّ تحليلَ الطبيعةِ الاجتماعية. بينما بالمقدورِ تعريف المصطلحاتِ الأخرى بعدَها على التوالي.

 

1-     الثقافة:

بِوِسعِنا صياغةُ تعريفٍ عامٍّ للثقافةِ على أنها مجموعُ كينوناتِ المعاني والبُنى التي كَوَّنَها المجتمعُ البشريُّ على مدارِ السياقِ التاريخيّ. وبينما تُعَرَّفُ كينوناتُ البنى على أنها مجموعُ المؤسساتِ المنفتحةِ للتحولِ والتطور، فمن الممكنِ تعريفُ كينوناتِ المعاني على أنها مستوى أو مضمونُ المعاني المتنوعةِ والغنيةِ والمترابطةِ ببعضها البعضِ تبادُلياً وبالتكافُؤِ ضمن تلك المؤسساتِ المتطورة. وإذ ما عَزَّزنا التعريفَ بتشبيه، فبالإمكانِ تحديدُ كينونةِ البنيةِ بوصفِها الإطارَ الماديَّ الملموسَ للبنية، وتحديدُ المعنى بوصفِه مضمونَ هذا الإطارِ الماديِّ الملموس، أو بكونِه قانونَه الذي يُحَرِّكُه ويُصَيِّرُه مشحوناً بالعواطفِ والمشاعرِ والأفكار. بمُستطاعِنا القولُ أننا نَدنو هنا من مصطلَحَي "الطبيعة" و"الروح Tin" لدى هيغل. كما وباستطاعِتِنا القولُ أيضاً، وبصورةٍ خاصة، أنّ المعنى الذي أضفاه هيغل على هذَين المصطلحَين، ومضمونَ التعريفِ الذي صاغَه لهما قبل مائتَي عام، قد ترسَّخَ أكثر مع المستجداتِ العلميةِ اللاحقة.

التعريفُ الضيقُ للثقافةِ كثيرُ التداولِ إلى حدٍّ ما. يُعمَلُ هنا بالأغلب على تحديدِ إطارِ الثقافةِ على أنها المعنى والمضمونُ وقانونُ البنيةِ وحيويتُها. وعندما يَكُونُ المجتمعُ موضوعَ الحديث، فإننا نُعَرِّفُ الثقافةَ بالمعنى الضيقِ بأنها عالَم المعنى لدى المجتمع، وقانونُه الخُلُقِيّ، وذهنيتُه وفنُّه وعِلمُه. وبتوحيدِ المؤسساتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ مع هذا المعنى الضيق، يتمُّ الانتقالُ إلى التعريفِ العامِّ للثقافةِ بمعناها العام. بالتالي، لا يُمكنُ الحديثُ عن المجتمعِ بِحَدِّ ذاتِه باعتبارِه وجوداً، إلا بوجودِ أرضيةٍ مؤسساتيةٍ ومعنىً جوهريٍّ له. بينما الحديثُ عن مجتمعٍ مؤسساتيٍّ خالصٍ أو مجتمعِ المعنى الخالصِ بنحوٍ منفصلٍ وقائمٍ بذاتِه، أمرٌ مُضَلِّلٌ وخادعٌ إلى درجةٍ كبيرة. ذلك أنّ مجتمعاً منفرداً بذاتِه لن يستطيعَ التحولَ إلى هوية، أو إطلاقَ تسميةٍ على ذاتِه من حيث كونِه وجوداً وكياناً؛ إلا إذا كان يَتمتعُ بمستوى كافٍ من المعنى والمؤسساتية. أما الحديثُ عن المجتمعِ المؤسساتيِّ أو مجتمعِ المعنى المنفصلِ والقائمِ بذاتِه، وافتراضُ إمكانيةِ العيشِ بإنسانيةٍ في هكذا مجتمعات؛ فيُحكَمُ عليه بكونِه خطأً وانحرافاً وتدنياً أخلاقياً وشناعة، مثلما حصلَ في جميعِ المجتمعاتِ على مدى التاريخ.

محالٌ الحديثُ هنا عن معنى مجتمعٍ ما أو عن ثقافتِه الضيقة، بَعدَ بَعثرتِه مؤسساتياً. والمؤسسةُ في هذه الحالِ كالكأسِ المليئةِ بالماء. واضحٌ جلياً أنه لا يُمكنُ الحديثُ عن وجودِ الماءِ بَعدَ تَحَطُّمِ الكأس. وحتى لو أَمكَن، فهو لَم يَعُدْ ماءً بالنسبةِ لصاحبِ الكأس، بل هو عنصرُ حياةٍ متدفقةٍ في تربةِ أو إناءِ أناسٍ آخرين. في حين أنّ النتائجَ المتمخضةَ من خُسرانِ المعنى والذهنيةِ والجماليةِ الاجتماعيةِ أفجعُ وأفظعُ من ذلك بكثير. ففي هكذا حالةٍ لا يُمكنُ الحديثُ سوى عن تألُّمِ واصطفاقِ كيانٍ هو أَقرَبُ إلى الكائناتِ الحيّةِ مقطوعةِ الرأس. بمعنى آخر، فمجتمعٌ خاسرٌ لعالَمِه الذهنيِّ والجماليّ، أَشبَهُ بِجِيفةٍ متروكةٍ للتفسخِ والتحلُّلِ والانقضاضِ عليها بوحشية. بناءً عليه، ولتعريفِ مجتمعٍ ما ثقافياً، يُشتَرَطُ حتمياً تقييمُه ضمن تكامُلٍ كلياتيٍّ على صعيدِ المؤسساتيةِ والمعنى. وأبسَطُ مثالٍ يمكِنُنا تقديمُه في هذا المضمار، هو واقعُ المجتمعِ الكرديِّ الذي نَشهَدُ مأساتَه الدراميةَ بكثافة. فنظراً لمعاناتِه من التمزُّقِ العميقِ والخُسرانِ الذهنيِّ مؤسساتياً ومعنىً على حدٍّ سواء، فلا يُمكننا تسميةُ المجتمعِ الكرديِّ إلا بـ"المجتمعِ القابعِ تحت نيرِ الإبادةِ الثقافية".

 

2-    اللغة:

يرتبطُ مصطلحُ اللغةِ بمصطلحِ الثقافةِ بأواصر متينة، مُشَكِّلاً أساساً العنصرَ الرئيسيَّ في حقلِ الثقافةِ بمعناه الضيق. لذا، بالإمكانِ تعريفُ اللغةِ بمعناها الضيقِ على أنها الثقافةُ أيضاً. فاللغةُ بذاتِها تعني الزخمَ الاجتماعيَّ للذهنيةِ والأخلاقِ والجمالياتِ والمشاعرِ والأفكارِ التي اكتسَبَها مجتمعٌ ما. وهي الوجودُ الهوياتيُّ واللحظيُّ المُدرَكُ والمُعَبَّرُ عنه بالنسبةِ للمعنى والعاطفة. والمجتمعُ الذي يُعَبِّرُ عن ذاتِه يدلُّ على امتلاكِه الحجةَ القويةَ للحياة. ذلك أنّ مستوى رُقِيِّ اللغةِ هو مستوى تقدُّمِ الحياة. أي أنّه بقدرِ ما يَرقى مجتمعٌ ما بلغتِه الأمّ، يَكُونُ قد ارتَفعَ بمستوى الحياةِ أيضاً بالمِثل. وبقدرِ ما يخسرُ مجتمعٌ ما لغتَه ويدخلُ تحت حاكميةِ ونفوذِ لغاتٍ أخرى، يَكُونُ مُستَعمَراً ومتعرضاً للصهرِ والإبادةِ بالمِثل. من الواضحِ أنّ المجتمعاتِ التي تحيا هذا الواقعَ لن تتمتعَ بحياةٍ مفعمةٍ بالمعاني ذهنياً وخُلُقياً وجمالياً، بل سيُحكَمُ عليها بحياةٍ مأساويةٍ إلى أن تُمحى وتَفنى بوصفِها مجتمعاتٍ مَريضة. هذا ولا مَهربَ من توظيفِ القيمِ المؤسساتيةِ للمجتمعاتِ التي تعاني من فُقدانِ المعنى والجمالياتِ والأخلاقِ كمادةٍ خامّ لقِيمِ المستعمِرين. خلاصةً؛ إذا تمَّ عيشُ لغةٍ كما هي الحالُ لدى الكردِ مثلاً، فجليٌّ جلاءَ النهارِ أنّ مجتمعاً يمرُّ بحالةٍ كهذه سوف يَغدو مقهوراً وبائساً حتى الحضيضِ على الصعيدِ الماديّ، وسيَهوي نحو التشتُّتِ إلى أشلاء متناثرة؛ ولن يتفادى العيشَ مشحوناً بالأخطاءِ والخياناتِ والشناعاتِ معنىً وأخلاقياً وجمالياً.

 

3-    المدنية:

غالباً ما يَقومُ مصطلحُ المدنيةِ بتعريفِ مجتمعِ مصطلحِ الثقافةِ العامةِ المارِّ بأطوارِ تَشَكُّلِ الطبقةِ والمدينةِ والدولة. ذلك أنّ التحولَ الطبقيَّ والتمدُّنَ والتدوُّلَ تصنيفاتٌ أوليةٌ لمجتمعِ المدنية. أي أنّ المجتمعَ هنا مجتمعٌ متمايزٌ طبقياً ومتمدنٌ ومتدول. وبمنوالٍ ملموسٍ وتاريخيٍّ للتطور، فإنّ كلاً من ظاهرةِ التمايُزِ الطبقيِّ البارزةِ في المجتمعِ الكلانيِّ والقَبَلِيِّ المُفعَمِ بالمساواة، وظاهرةِ التمدنِ المتأسسةَ على خلفيةِ مجتمعِ الزراعةِ – القرية، وظاهرةِ التدولِ المنبثقةَ من أحشاءِ المجتمعِ الهرميّ؛ جميعُها تَقومُ بوصفِ المدنية. ويتجلّى مجتمعُ المدنيةِ بشكلٍ ملموسٍ كلما تطوَّرَت علاقةُ التحكمِ بالطبيعةِ الاجتماعيةِ بمنوالٍ أحاديِّ الجانب، وكلما اتَّخَذَت حالةَ تناقضٍ محتدمٍ طردياً؛ جنباً إلى جَنبٍ مع العلاقةِ التكافليةِ المبنيةِ على المجتمعِ – الطبيعة. وهكذا يُطَوِّرُ كينوناتٍ بُنيويةً ومعانٍ وأحاسيساً خُلُقِيةً وجماليةً مغايرةٍ في المجتمع. هل المدنيةُ تطورٌ إيجابيٌّ أم سلبيٌّ بالنسبةِ للمجتمع؟ إنه موضوعُ جدلٍ وسجالٍ مفتوحٍ على مصراعَيه. فعلى صعيدِ مُشَيِّدي التاريخِ من وجهةِ نظرِ الشرائحِ المهيمنةِ والمستعمِرة، تُعَدُّ المدنيةُ تطوراً تاريخياً عظيماً، بل التاريخَ بِعَينِه. في حين تُعتَبَرُ كارثةً مُفجِعةً وفقداناً ليوتوبيا الجنةِ من جهةِ الذين يُعَرِّفون أنفسَهم بالشرائحِ القابعةِ تحت نيرِ القمعِ والاستغلال. وهذا هو الصحيح. من هنا، فظهورُ التبايُنِ في الفكرِ والخُلُقِ والمشاعرِ الجماليةِ في مجتمعٍ يُعاني هذا التناقضَ حتى الأغوار، هو من دواعي الطبيعةِ الاجتماعية. وغالبا ما تشيرُ الحروبُ إلى هذه الحقيقة. في حين أنّ وجودَ ممارساتٍ اجتماعيةٍ يُعاشُ فيها الإفناءُ الجسديُّ بكثافةٍ كالحربِ مثلاً، لا يُمكِنُ إلا أنْ يُعَبِّرَ عن مجتمعٍ متجزئٍ حتى أعماقِه. أما تَجَزُّؤُ المعنى، فَيُعَبِّرُ عن الحربِ الأيديولوجية، التي تُفيدُ بدورِها بحربِ هيمنةٍ تؤثرُ –بأقلِّ تقدير– بما يُعادِلُ الحربَ الجسديةَ المُعاشةَ بكثافةٍ ضمن مجتمعِ المدنية. وبينما يَبسطُ الطرفان المتصارعان في مجتمعِ المدنيةِ فوارقَهما التي تُمَيِّزُهما عن بعضِهما بعضاً عن طريقِ الحروبِ الأيديولوجيةِ والجسديةِ والمؤسساتيةِ من جهة، فإنّ كِلَيهما لا يتوانيان من الجهةِ الثانيةِ عن التعبيرِ عن ذاتِه ككُلٍّ متكاملٍ من البنى والمعاني الأساسيةِ التي تقتضي بدورِها الهيمنةَ والسيرورة. بل ويَزعَمُ كلٌّ منهما أنّ المجتمعَ الحقيقيَّ يتكونُ منه هو، وأنّ المجتمعَ يُصَيِّرُ نفسَه وجوداً بهذه الشاكلة. وتظلُّ الحقيقةُ الرئيسيةُ للمدنيةِ على هذا المنوال، مهما تَسَتَّرَت في دواخِلها بمراحل مختلفة، ومهما تجسدَت في مؤسساتٍ مختلفةٍ أو تقمَّصَت معانيَ متغايرة.

الظاهرةُ الأساسيةُ المُلاحَظةُ في سياقِ تصاعُدِ مجتمعِ المدنية، هي ابتلاعُه طردياً للمجتمعِ الذي تنامى بين طواياه، وصَهرُه إياه داخلَ بوتقةِ أجهزةِ العنفِ والاستغلال، وقيامُه تأسيساً على هذه الظاهرةِ بتفكيكِ وتدميرِ العلاقةِ الأيكولوجيةِ التكافليةِ القائمةِ مع الطبيعةِ الأولى، مُحَوِّلاً بالتالي ذاك المجتمعَ إلى مَصدرٍ للموارد؛ وقيامُه باستثمارِه إلى حينِ نفاذِه تدريجياً. والتساؤلُ المطروحُ في هذه الحالة: "هل سيتبعثرُ المجتمعُ بالتناقضاتِ الداخليةِ أم بالتناقضاتِ الأيكولوجية؟"، قد باتَ سؤالاً مرحليّاً قائماً. والصحيحُ هو استحالةُ تَجَنُّبِ الطبيعتَين الأولى والثانيةِ لمعاناةِ الكوارثِ الكبرى تحت نيرِ سيادةِ التناقضَين معاً، في حالِ عدمِ حصولِ تحوُّلٍ إيجابيٍّ جذريٍّ في المدنية. أما التقييماتُ التي تَذهبُ إلى القولِ باستحالةِ عيشِ المجتمعاتِ بلا مدنية، والتي تَنظرُ إلى المجتمعاتِ المتحضرةِ على أنها مجتمعاتٌ ثريةٌ ومنيعة؛ فهي تقييماتٌ أيديولوجية، وغالباً ما تَعكسُ براديغما النخبةِ الاحتكاريةِ التَّحَكُّميةِ الاستعمارية. والمستوى الذي بَلَغَه التمايُزُ الطبقيُّ والتمدنُ والتدول، تُقَيِّمُه كافةُ الأوساطِ العلميةِ ذات السيادةِ بكونِه سرطاناً اجتماعياً (والسرطانُ الجسديُّ متعلقٌ بهذه الواقعة). وثمة مؤشراتٌ تَزيدُ عن الحدِّ في هذا المضمار. وما التسلحُ النووي، دمارُ البيئة، البطالةُ البنيوية، المجتمعُ الاستهلاكيّ، التضخمُ السكانيُّ المفرط، السرطانُ البيولوجيّ، الأمراضُ الجنسية، والإباداتُ المتزايدةُ سوى بضعةٌ أوليةٌ من تلك المؤشرات. بناءً عليه، فالحضارةُ – العصرانيةُ الديمقراطيةُ تُصبحُ مع الزمنِ بديلاً كسبيلٍ للنفاذ، نظراً لإخراجِها المدنيةَ المتناقضةَ والسرطانيةَ السائدةَ من طابعِها التسلطيِّ والاستعماريّ، ولإطرائِها التحولَ عليها. الأمرُ الصحيحُ هو النظرُ إلى انهيارِ المدنيةِ القديمةِ على أنه تصاعُدُ الحضارةِ الديمقراطيةِ واحتلالُها المنزلةَ الرئيسية، عوضاً عن تقييمِه كانهيارٍ للبشريةِ قاطبة. هذا ومن الأهميةِ بمكانٍ الإدراكُ في هذه الحالةِ بأنّ الثقافاتِ الاجتماعيةَ أكثرُ رسوخاً وديمومة، وأنّ الثقافاتِ تملكُ القدرةَ على إحداثِ التبايُنِ والتطورِ في المدنياتِ من جهة، وأنه لديها القابليةُ لإطراءِ التحولاتِ الجذريةِ عليها من الجهةِ الثانية. من هنا، فدعكَ جانباً من تقييمِ انهيارِ المدنيةِ في مجتمعٍ ما كخسارةٍ جذرية، بل ينبغي الحكمُ عليه كتطورٍ إيجابيٍّ إلى آخرِ حدّ، فيما إذا فتحَ المجالَ أمام تطوُّرِ الثقافةِ بنيةً ومعنىً في آنٍ معاً. ولَئِنْ مَهَّدَ الطريقَ أمام تحوُّلِ المدنية، فبإمكاننا تفسيرُ هذا التطورِ على أنه تحررٌ جذريٌّ وبلوغٌ إلى الحياةِ الحرة.

 

4-    السلطة:

يتصدرُ مصطلحُ السلطةِ لائحةَ المصطلحاتِ المتضاربة، والمؤديةِ إلى الأخطاء، والمتسببةِ بأكثرِ المشقاتِ لدى تحليلِ الواقعِ الاجتماعيّ؛ وكأنه يُعانِدُ إزاء صياغةِ تعريفٍ واضحٍ له شكلاً ومضموناً. هذا ويَنعكِسُ ذلك على تعريفِ الحاكميةِ الكامنةِ في طبيعتِه، ويُعانِدُ إزاءَ صياغةِ تعريفٍ واقعيّ، ولا يُبرِزُ ذاتَه بوضوح. إذ يَبدو وكأنه ظاهرةٌ حياديّة، ولكنْ لا يُمكنُ الاستغناءُ عنها. كما يُعَمِّمُ ذاتَه، ويُصَيِّرُها مُطلقةً تكادُ تصبحُ إلهية. من هنا، فالأصحُّ هو تعريفُ السلطةِ الاجتماعيةِ بكونِها استغلالاً اقتصادياً مُرَكَّزاً وإمكانيةَ قوةٍ مُكَثَّفة (طاقة كامنة). وهكذا تُعتَبَرُ السلطةُ إمكانيةً للاستغلالِ والقوةِ المتراكمَين وكأنهما اكتَسبا طابعاً جينياً (كالحمض النووي DNA) في كلِّ البؤرِ البنيويةِ والذكائيةِ للمجتمع. في حين إنّ القوى الاجتماعيةَ المستوليةَ على آليةِ هذه السلطةِ تُشَكِّلُ الدولةَ التاريخيةَ العينيةَ ونُخَبَها الاستغلاليةَ وطبقاتِها. لذا، من عظيمِ الأهميةِ إضفاءُ المعنى دوماً على السلطةِ من حيث كونِها طاقةً احتياطيةً كامنةً لكياناتِ الطبقةِ والدولة. فحين تتجسدُ الطاقةُ الكامنةُ للسلطة عَينياً، فإنها تُشَكِّلُ دولةً ما بطبقتِها الاستغلاليةِ الاجتماعيةِ التي ترتكزُ إليها نُخَبُها الحاكمة (العبودية، الإقطاعية، أو البورجوازية أو غيرها). كما وبالإمكانِ التفكيرُ في السلطةِ من حيث هي طاقةٌ كامنةٌ لقوةٍ جسديةٍ وفكريةٍ على حدٍّ سواء. الدافعُ الهامُّ الآخرُ لفرضِها نفسَها على المجتمعِ وكأنها ضرورةٌ حتميةٌ ولازمةٌ باستمرار، يتمثلُ في مطابقتِها لنفسِها مع الحاجةِ إلى الإدارةِ الاجتماعيةِ الطبيعية. أي أنّ السلطةَ تُصبحُ لا غنى عنها لمطابقتِها ذاتَها مع ظاهرةِ الإدارة. في حين سيُرى أنّ السلطةَ تتسللُ إلى البنيةِ الاجتماعيةِ كوَرَمٍ سرطانيّ، إذ ما تمَّ تمييزُها عن قيادةِ المجتمعِ الطبيعيّ.

من الأهميةِ بمكانٍ أيضاً ملاحظةُ الفارقِ بين السلطةِ والدولة. فرغمَ انتشارِ السلطةِ في المجتمعِ وتغلغُلِها في كافةِ مساماتِه بدرجةٍ أكبر، إلا أنّ الدولةَ تُعَبِّرُ عن هويةِ سلطةٍ أكثر ضيقاً وذاتِ ضوابط ملموسة. بمعنى آخر، فالدولةُ شكلٌ من أشكالِ السلطةِ الخاضعةِ لرقابةٍ أكبر، والممتثلةِ للقواعد، والمتحولةِ إلى قانون، والتي تُبدي عنايةً فائقةً لشرعنةِ ذاتِها. وبينما تُقَيَّمُ السلطةُ كحالةِ سيادةٍ عامة، فإنه بالمستطاعِ الحكمُ على اللاسلطةِ كحالةِ عبوديةٍ عامة. واختلافُ أشكالِ السلطةِ والعبوديةِ متعلقٌ بالمزايا العامةِ للدولة، إذ تنتهلُ غَيضَها من فَيضِها. لذا، بالوِسعِ الحكمُ عليها أيضاً بأنها مضادةٌ للحرية. فبقدرِ تواجُدِ كُمونِ السلطةِ في المجتمع، فإنّ غيابَ الحريةِ يَسُودُ بالمِثل. وبقدرِ التقليلِ من السلطة، فإنّ وضعَ الحريةِ يُحقِّقُ التطورَ بالمِثل. لذا، ينبغي الانتباه جيداً للحنينِ إلى السلطةِ بين صفوفِ المجتمع. فبقدرِ استفحالِه، يتكاثرُ المستبِدّون الاجتماعيون الصغارُ بالمِثل. وهذا ما يؤولُ إلى استهلاكِ واستنزافِ الديمقراطيةِ تماماً. ولا مناص من تحوُّلِ الاستبداديةِ التي هي مَرَضٌ سلطويٌّ إلى عملاقٍ مارد، في حالِ تَمَلُّصِها من الرقابةِ وتحرُّرِها من قيودِها، مثلما لوحِظَ في مثالِ هتلر. إنّ الاستبداديةَ البارزةَ تاريخياً إلى الوسطِ في هيئةِ حُكمٍ مِزاجيّ، والتي تَحيا كأورامٍ اجتماعيةٍ فاشية؛ تتضخمُ بسرعةٍ في سياقاتِ السلطةِ الرأسماليةِ مستشريةً في جميعِ المساماتِ الاجتماعية، متجسدةً بذلك في هيئةِ حُكمِ قوةٍ توتاليتاريةٍ ضمن المجتمع. أما شكلُ السلطةِ من طرازِ الدولةِ القومية، فله أواصرُه مع النظامِ الرأسماليِّ – الفاشيّ، مُعَبِّراً بذلك عن وضعِه الأولويّ.

 

5-    الإدارة:

التعريفُ الصحيحُ للإدارةِ هامٌّ على صعيدِ تلافي السلبياتِ وقِصَرِ النظرِ الناجمِ من مصطلحِ السلطة. الإدارةُ أيضاً كما الثقافة، ظاهرةٌ مستمرةٌ في المجتمع. وإذا عَمَّمنا أكثر، فهي تُعادِلُ الرقيَّ الدماغيَّ على المستوى الكونيّ، وتَرَكُّزَ الحالةِ العصبيةِ ضمن الكونِ البيولوجيِّ بصورةٍ خاصة. تُفيدُ الإدارةُ بالانتظامِ في الكونِ وبحالةِ الهربِ من الفوضى. والوضعُ الراقي لطبيعةِ المعنى ذاتِ الذكاءِ المرنِ في المجتمع، إنما يقتضي بدورِه رقيَّ القدرةِ على الإدارة. من الممكنِ تسميةُ العقلِ الاجتماعيِّ بالإدارة. وفي هذه الحالة، من المهمِّ بمكانٍ تحليلُ مصطلحَي الإدارةِ الذاتيةِ özyönetim والإدارةِ الغريبةِ الأجنبية. فبينما تَقومُ الإدارةُ الذاتيةُ بتنظيمِ القُدُراتِ الكائنةِ في طبيعتِها الاجتماعيةِ ومراقبتِها، وبالتالي تُؤَمِّنُ سيرورةَ المجتمع، وتَضمَنُ مَأكلَه ومَأمَنَه؛ فإنّ الإدارةَ الغريبةَ "تُشَرعِنُ نفسَها" كسلطة، وتعملُ على إغواءِ المجتمعِ المُسَلَّطةِ عليه (تحاولُ غسل دماغه)، لِتَقدِرَ بالتالي على حُكمِه بعدَ تحويلِه إلى مستعمَرةٍ لديها. من هنا، فالإدارةُ الذاتيةُ تتمتعُ بأهميةٍ مصيريةٍ بالنسبةِ لمجتمعٍ ما. وكيفما يستحيلُ على مجتمعٍ يفتقرُ إلى الإدارةِ الذاتيةِ أنْ يتجنبَ التحولَ إلى مستعمَرة، فلا مفرَّ من فنائِه وزوالِه ضمن سياقِ الصهرِ والإبادةِ كمَآلٍ طبيعيٍّ لذلك.

تُمَثِّلُ الإداراتُ الغريبةُ عن جوهرِ المجتمعِ أكثرَ أشكالِ السلطةِ طغياناً واستعماراً. بناءً عليه، فالمَهَمَةُّ الأخلاقيةُ والعلميةُ والجماليةُ المصيريةُ والأهمّ على الإطلاقِ بالنسبةِ لمجتمعٍ ما، هي بلوغُه قوةَ الإدارةِ الذاتية. ومثلما لا يُمكنُ لمجتمعٍ قاصرٍ عن النجاحِ في هذه المَهَمَّةِ أنْ يتطورَ أخلاقياً وعلمياً وجمالياً، فإنّ تطورَه وتمأسُسَه السياسيَّ والاقتصاديَّ أيضاً يفنى ويَزول. المهمُّ هنا هو منعُ كفاءةِ الإدارةِ من الانتقالِ بذاتِها نحو شكلِ السلطةِ من جانب، وتَصَدّيها حتى آخرِ رمقٍ تجاه اللاإدارةِ من الجانبِ الآخر. وبقدرِ أهميةِ عدمِ تحويلِ الإدارةِ إلى سلطة، فعدمُ سلبِ السلطةِ للامتيازاتِ من قبضةِ الإدارةِ أيضاً يتحلى بأهميةٍ كبيرة. حيث، وبقدرِ ما تُعتَبَرُ السلطةُ مناهِضةً للمجتمعية، فإنّ الإدارةَ كفاءةٌ مجتمعيةٌ بالمِثل. ولا يحصلُ تطورٌ أخلاقيٌّ أو جماليٌّ أو علميٌّ من دونِ كفاءةٍ اجتماعية. هكذا، وفي حالِ غيابِ التطورِ الثقافيِّ بمعناه الضيق، لن يحصلَ التطورُ الاقتصاديُّ والسياسيُّ أيضاً بالمعنى الواسع. وما سيُعاشُ في هذه الحالة، هو الفناءُ تحت ظلِّ الاستعمارِ والصهرِ والإبادة.

بقدرِ ما يَكُونُ حُكمُ السلطةِ مناهِضاً للديمقراطيةِ في المجتمع، فإنّ الإدارةَ الذاتيةَ مرتبطةٌ بالإدارةِ الديمقراطيةِ بالدرجةِ نفسِها. وبقدرِ ما تُعَبِّرُ أشكالُ حُكمِ السلطةِ المَحضِ عن التضادِّ مع الديمقراطيةِ وإبعادِ المجتمعِ عن إدارتِه، فإنّ الإداراتِ الذاتيةَ تُفيدُ بالدمقرطةِ تناسُباً مع إشراكِ المجتمعِ في الإدارة. بالمستطاعِ تعريفُ الديمقراطيةِ في هذه الحالِ بكونِها الإدارةَ الذاتيةَ التي يُشارِكُ فيها المجتمع. ونظراً لاهتمامِ الإداراتِ الذاتيةِ بالمجتمعِ دوماً، فإنّ الديمقراطيةَ موجودةٌ في طبيعتِها، بِحُكمِ استحالةِ التفكيرِ في عدمِ مشاركةِ المجتمعِ فيها. وبينما يتمُّ تصوُّرُ الديمقراطيةِ بالأغلبِ على أنها مصطلحٌ معنيٌّ بالمجتمعاتِ الكبرى كالشعوبِ والأمم، فإنّ الإداراتِ الذاتيةَ تشيرُ إلى قُدُراتٍ وكفاءاتٍ متواصلةٍ تنتشرُ من أصغرِ المجتمعاتِ الكلانيةِ إلى أوسعِ المجتمعاتِ القومية. يأتي عجزُ علمِ الاجتماعِ عن تحليلِ التشويشِ والخلطِ الكامن بين السلطةِ والإدارة، في مقدمةِ الأزماتِ أو الإشكالياتِ الهامةِ جداً التي عانى منها. وهذا ما أبقى بدورِه على جميعِ التحليلاتِ البنيويةِ والعقليةِ والمواقفِ التاريخيةِ تتخبطُ في معمعانِ الفوضى، مُطيلاً بذلك من عُمرِ الأزمة. والنتيجةُ هي ابتلاعُ السلطةِ لكلِّ المجتمعِ والبيئة، وإفراغُها الديمقراطيةَ من جوهرِها، مختزلةً إياها إلى قِشرةٍ جوفاء، واختزالُ ذاتِها إلى شكلٍ صوريٍّ متكررٍ بلا جدوى. لذا، لن يَكُونَ تخطي الأزمةِ القائمةِ في الحقلِ العلميّ، وبالتالي الأزمةِ الاجتماعيةِ أمراً ممكناً بوصفِها كينونةً بنيويةً وكينونةَ معنى؛ ما لَم يَقُمْ العلمُ السوسيولوجيُّ بتحليلِ مصطلحَي السلطةِ والإدارةِ الديمقراطيةِ بعدَ وضعِهما في مِحورِ اهتماماتِه، وما لَم يَقُمْ ارتباطاً بذلك بتعميمِ الحلِّ على التاريخِ والعلومِ الأخرى.

 

6-    السياسة:

يُمثِّلُ مصطلحُ السياسةِ أيضاً ظاهرةً اجتماعيةً عويصةً على الإدراكِ بقدرِ مصطلحِ السلطةِ على الأقل. وكلمةُ السياسة، التي تُذَكِّرُ بالإدارةِ وبمصطلحِ السلطةِ على السواء، ذاتُ أصولٍ إغريقية، وتَعني "إدارة المدينة". لكن، وعندما يَجري الحديثُ عنها كظاهرةٍ اجتماعية، فبالإمكانِ تعريفُها على أنها تحقيقُ تطوُّرِ المجتمعِ من خلالِ إدارةِ شؤونِه بحرية، وتأمينُ رُقِيِّ الفردانيةِ فيه. فإلى جانبِ احتوائِها لظاهرةِ الإدارة، إلا أنه لا يُمكنُ حصرُها بها فحسب. هذا ومحالٌ مطابقتُها مع الإدارةِ الذاتيةِ أو مع حُكمِ السلطة. لذا، فالنظرُ إلى السياسةِ على أنها مساحةُ حريةِ المجتمعِ ومساحةُ الخَلْقِ التي يزدادُ فيها التطورُ معنىً وإرادةً، هو أدنى إلى حقيقتِها الجوهرية. بل وبالمستطاعِ المُطابَقةُ بين السياسةِ والحرية. موضوعُ الحديثِ هنا هو إدراكُ المجتمعِ لذاتِه وهويتِه فكراً وممارسةً، وتطويرُه إياهما، ودفاعُه عنهما. وبينما تَكتسبُ السياسةُ هويةَ السياسةِ الديمقراطيةِ لدى بلوغِها القدرةَ على الإدارةِ الذاتية، فبالإمكانِ تقييمُ تحويلِها إلى حالةِ حُكمِ السلطةِ على أنه تحريفُ السياسةِ عن حقيقتِها الجوهرية، وإسقاطُها في وضعٍ تَنكرُ فيه ذاتَها. ذلك أنّ ساحةَ السلطةِ هي الحقلُ الذي تُنكَرُ فيه السياسة. بناءً عليه، فحُكمُ الدولةِ ليس سياسةً أو إدارةً سياسيةً كما تُرَوِّجُ له الليبراليةُ بإصرار. بل، وعلى النقيض، إنه يعني إنكارَ السياسة، وإقامةَ الحُكمِ المزاجيِّ للسلطةِ أو لحكمِ الدولةِ المضبوطِ بدلاً منها. ولا يُمكنُ البتةَ تعريفُ حكمِ الدولةِ بالسياسة، بل هو ضربٌ من ضروبِ السلطةِ المضبوطةِ والمؤَطَّرةِ بمعايير وقواعد. وفي كلِّ الأحوال، فالسلطةُ بالذات تعني دحضَ وتفنيدَ السياسة.

الساحةُ التي أصابَها التشوشُ بالأكثر في علمِ الاجتماع، هي ساحةُ العلاقةِ بين السلطةِ والإدارةِ والسياسة. إذ تُستَخدَمُ هذه المصطلحاتُ بالتداخُلِ وكأنها متطابقة، بحيثُ يُحاكُ سقفُ علمِ الاجتماعِ برمتِّه بمنوالٍ خاطئٍ تسلسلياً. وعلمُ الاجتماعِ الذي يَنتهلُ من الأيديولوجيةِ الليبرالية، إنما يَخدمُ تشويشَ العقولِ بلا حدودٍ في هذا المضمار. حيث ولدى إطلاقِ تسميةِ السياسةِ على كافةِ ممارساتِ الأنظمةِ التسلطيةِ بصورةٍ خاصة، فإنه يتمّ التغاضي عن الكسراتِ السياسيةِ النذيرةِ الصامدةِ من جهة، والحكمُ على الإدارةِ القَبَليةِ البدائيةِ من الجهةِ الثانيةِ بكونِها نزعةً محليةً ضيقةً وقاصرةً عن التحلي ببُعدِ الرؤيةِ وعن تمثيلِ المصالحِ الوطنيةِ الأساسيةِ الداخليةِ منها والخارجية. ويُعَدُّ تشوُّشُ العقولِ والعَربدةُ في هذا السياقِ في أعلى الدرجات. كما ويَجري الحديثُ عشوائياً ودون أيِّ تفكيرٍ عن تحقيقِ تطورٍ كبيرٍ على الصعيدِ السياسيّ، وعن بلوغِ مستوى عصريٍّ ومتحضرٍ في السياسة؛ رغمَ إقصاءِ السياسةِ من المجتمعِ منذ أمَدٍ بعيد، ورغمَ إحلالِ ألغازِ السلطةِ المُطابِقةِ للخيانةِ محلَّها. بَيْدَ أنّ ما يَسري في الميدانِ الاجتماعيِّ الذي تتواجدُ فيه السياسة، هو المصالحُ الحياتيةُ للمجتمع، وسلامتُه ورُقِيُّه بُنيةً ومعنىً. بينما المجتمعاتُ التي تَغيبُ فيها السياسةُ أو تضعف، لن تتخلصَ من معاناةِ نيرِ سلطةٍ إباديةٍ واستعماريةٍ من الخارج، أو استغلالِ وقمعِ نخبةٍ سلطويةٍ وطبقةٍ استغلاليةٍ من الداخل. من هنا، فأعظمُ حَسَنةٍ يُمكنُ عملُها من أجلِ مجتمعٍ ما، هي النهوضُ به إلى مستوى المجتمعِ السياسيّ. والأفضلُ من ذلك هو البلوغُ به إلى ديمقراطيةٍ دائمةٍ وبنيويةٍ تَنشطُ فيها السياسةُ الديمقراطيةُ على مدارِ الساعة.

 

7-     الأخلاق:

يمكنُ تعريفُ الأخلاقِ على أنها شكلٌ من أشكالِ السياسةِ التي تتخذُ حالةَ التقاليدِ المؤسساتيةِ التاريخية. فبينما تؤدي السياسةُ بالأغلبِ دورَ المُبدِعِ والحامي والمُغَذّي يومياً، فإنّ الأخلاقَ تَقومُ بالخدمةِ عينِها من أجلِ المجتمعِ القائم، وذلك عن طريقِ القوةِ المؤسساتيةِ والقواعديةِ للتقاليد. هذا وبالمقدورِ أيضاً تقييمُ الأخلاقِ بأنها الذاكرةُ السياسيةُ للمجتمع. لذا، فالمجتمعاتُ المنحطةُ خُلُقياً، أو التي تَفتقرُ إلى الأخلاق، تدلُّ على مدى ضعفِ ذاكرتِها السياسيةِ أو خُسرانِها إياها، وتشيرُ بالتالي إلى مدى فقدانِها لقوتِها المؤسساتيةِ والقواعديةِ التقليدية. وهذا ما مفادُه بالنسبةِ لمجتمعٍ ما، افتقارُه للدفاعِ الذاتيّ، وإسقاطُه في حالةٍ ينفتحُ فيها على شتى أشكالِ الممارساتِ التحكميةِ والاستعماريةِ والصّاهِرةِ داخلياً وخارجياً. من هنا، فالدافعُ الأوليُّ الذي يتوارى خلفَ قيامِ أنظمةِ السلطةِ وكياناتِ الدولةِ بتعريةِ الأخلاقِ والنهشِ فيها على الدوام، وخلفَ فرضِها الإرادةَ القانونيةَ أحاديةَ الجانبِ (الشكلَ الأخلاقيَّ للمهيمنين) على المجتمعِ بدلاً منها؛ هو النظرُ بعينِ الضرورةِ الحتميةِ إلى إقحامِ ذاك المجتمعِ في وضعٍ يغدو فيه منفتحاً على حُكمِ السلطةِ والاستغلالِ دائمياً وبنيوياً، وذلك بعدَ تخريبِ السياسةِ والإدارةِ الذاتيةِ فيه. ذلك أنّ مجتمعاً يحيا أخلاقَه بقوةٍ ومناعة، لا يُمكنُ أنْ يُذعِنَ للسلطةِ والاستغلالِ بسهولة. كما وإنّ أكثرَ حالاتِ الأخلاقِ سلبيةً ورجعيةً وبدائية، أثمنُ بالنسبةِ لمجتمعٍ ما من أكثرِ قوانينِ وأحكامِ السلطةِ والدولِ تقدماً. والمكانُ الذي يَسُودُ فيه المجتمعُ الأخلاقيُّ والسياسيّ، ناهيكَ عن عدمِ جدوى السلطةِ والقانونِ فيه، بل يَغدوان فيه عبئاً يَصعبُ تَحَمُّلُه. وبقدرِ تصييرِ مجتمعٍ ما أخلاقياً وسياسياً، فإنه يَغدو بالمِثلِ ديمقراطياً وحراً ومُفعماً بالمساواة، وبالتالي يصبحُ مقاوِماً ومنغلقاً على استثمارِ واستغلالِ نُخَبِ السلطةِ واحتكاراتِ رأسِ المال. أما قيامُ علومِ الاجتماعِ المُستَوحاةِ من الليبراليةِ بإسقاطِ السياسةِ إلى مستوى الديماغوجية والغَوغاء، وتعريفُها بشكلٍ خاصٍّ للأحزابِ التي هي نماذجٌ مُصَغَّرةٌ من الدولةِ على أنها أدواتٌ ديماغوجيةٌ أساسية؛ فلا يقتَصِرُ فقط على كونِه إساءةً شنيعةً وخيانةً للعلمِ باسمِ العلم، بل ويتأتى من وظيفتِه في خدمةِ احتكاراتِ السلطةِ والاستغلالِ بأداءِ دورِه الذي يُعتَرَف له به عن وعي.

 

8-    القانون:

على الرغمِ من كلِّ صِلاتِه بالحقِّ والعدالة، إلا أنّ الوظيفةَ الأوليةَ للقانونِ هي زيادةُ تعزيزِ سلطةِ الدولة، وبالتالي تحجيمُ الميدانِ الاجتماعيِّ أكثر فأكثر. لَطالَما تُطلَقُ الدعاياتُ حول القانون، ولكنْ، كثيراً ما تبقى وظيفتُه الأساسيةُ ضبابيةً ومحجوبةً لهذا السببِ بالذات. ذلك أنّ القانونَ المُقامَ مَقامَ الحياةِ المُؤطَّرةِ بقواعد ومبادئ تُؤَمِّنُ ديمومةَ المجتمعِ ومَأكَلَه ومَأمَنَه، يَقومُ بانتزاعِ تلك الإمكانيات، ويُجَرِّدُ المجتمعَ من السياسةِ والإدارةِ الذاتية، مُطَوِّقاً إياه بالقانونِ والحُكمِ المُعَدَّين من الأعلى وبنحوٍ أحاديِّ الجانبِ على يدِ السلطةِ والدولة، ومُخضِعاً إياه للقمعِ والاستغلالِ الطبقيَّين. انطلاقاً من ذلك بالتحديد، فمصطلحُ القانونِ أيضاً مُبهَمٌ بقدرِ مصطلحَي السلطةِ والسياسة، ومساعِدٌ على التحريفِ والتزويرِ إلى حدٍّ بعيد، وهو بمثابةِ الحقلِ الذي تُشَوَّشُ فيه العقولُ بالأكثر. أي، ومثلما أنّ التصاعُدَ الملحوظَ للقانونِ في مجتمعٍ ما يُفيدُ بتَعريةِ ذاك المجتمعِ من الأخلاق، فإنه يُشيرُ أيضاً إلى سيادةِ صراعٍ طبقيٍّ طاحنٍ جداً، وبالتالي إلى سيادةِ الاستغلالِ والقمعِ بوضوحٍ بارزٍ ضمنه. أما الترتيباتُ القانونيةُ المُفَصَّلة، وعلى نقيضِ ما يُزعَم، فهي لا تَعكسُ قوةَ الحقِّ وتمثيلَ العدل، بل تَعكسُ مصالحَ احتكاراتِ القمعِ والاستغلالِ المُشَفَّرةَ بانتظام. ونخصُّ بالذِّكرِ أنّ التطورَ الرهيبَ للقانونِ ضمن المسارِ المنظَّمِ للاستغلالِ الرأسماليّ، يتأتى من ميولِ النظامِ إلى الربحِ الأعظميِّ الذي لا يعرفُ حدوداً. ولَئِنْ نَبَشنا في أغوارِ مصطلحِ الحقِّ تاريخياً، فسنُواجِه احتكارَ السلطةِ الذي يُعلِنُ نفسَه إلهاً – مَلِكاً. يُعَبِّرُ مصطلحُ الحقِّ هنا عن استملاكِ وممارسةِ الإرادةِ أحاديةِ الجانبِ للمَلِكِ من جهة، وعن ألوهيتِه من الجهةِ الأخرى. وما المُطابَقةُ بين مصطلحاتِ الحقِّ والربِّ والله، وشَحذُها على هذه الشاكلة؛ سوى تعبيرٌ صارخٌ عن هذه الحقيقة.

هذا وبالإمكان الحكمُ على القانونِ من ناحيةٍ أخرى بأنه أخلاقُ احتكاراتِ السلطةِ ورأسِ المال. فبينما تَسري الأخلاقُ التقليديةُ بالأغلبِ في ساحةِ الأنقاضِ المتبقيةِ باسمِ المجتمع، يتمُّ تحويلُ القانونِ إلى ساحةِ ممارسةٍ مضبوطةٍ لسلطةِ الدولةِ التي تُضَيِّقُ مساحةَ المجتمعِ طردياً. أما جَعلُ كافةِ مجالاتِ الحياةِ تقريباً، بل والماءِ والهواءِ أيضاً موضوعَ قانونٍ في ظلِّ الحداثةِ الرأسماليةِ التي يُبحَثُ فيها عن الأخلاقِ بالشموع؛ فيَجعلُ مضمونَ مصطلحِ القانونِ ملموساً وأكثرَ شفافية. إنّ عملياتِ النهبِ والسلبِ التي تَقومُ بها الحداثةُ الرأسماليةُ بغطاءٍ شرعيٍّ من القانون، تَتَّخِذُ أبعاداً لا حدود لها، في حالِ مقارنتِها بمدى قيامِ حُكّامِ المدنيةِ القدماءِ بالسلبِ الاجتماعيِّ الذي طالَما تَعرضَ للنقد، رغم أنه في حقيقتِه قليلٌ للغاية.

إنّ الصعودَ بالقانونِ مع مرورِ الوقتِ إلى المراتبِ الأولى في علمِ الاجتماع، ينبعُ في جوهرِه من الحاجةِ إلى مُواراةِ الباطلِ باسمِ الحقّ، وإخفاءِ الرياءِ باسمِ الواقعِ الاجتماعيّ، وحجبِ تكبيلِ الحياةِ باسمِ الحياةِ المضبوطة. لذا، فالقانونُ مُرغَمٌ على أنْ يَكُونَ أداةَ الشرعنةِ الأساسيةَ للحداثةِ الرأسمالية. ومثلما لُوحِظَ في ظاهرةِ السلطة، فالمهمُّ في ميدانِ القانونِ أيضاً، هو رؤيةُ البُعدِ الأخلاقيّ، وتحليلُ التشويشِ الجاري فيه، ولو تَبَدّى وكأنه مُقَونَن؛ ومعرفةُ كيفيةِ الدفاعِ عن المجتمعِ بالأخلاقِ المُضَمَّنةِ في هذا القانون. بمعنى آخر، المهمُّ هنا هو عدمُ التخلي عن دورِ الأخلاقِ المُضَمَّنةِ بالقانونِ في حمايةِ المجتمعِ وتأمينِ سيرورتِه، تماماً كما استردادُ القدرةِ على الإدارةِ الاجتماعيةِ المُضَمّنةِ بالسلطة.

 

9-    الديمقراطية:

الاستخدامُ الزائدُ لمصطلحِ الديمقراطيةِ في الممارسةِ العملية، وتفسيرُها المناقِضُ لجوهرِها، يُضفي الأهميةَ على تعريفِها صحيحاً. بالإمكانِ صياغةُ تعاريف على نطاقٍ ضيقٍ وآخر واسعٍ للديمقراطيةِ التي يَكثُرُ استخدامُها رغمَ الفوضى الاصطلاحيةِ المحيطةِ بها. حيث يُمكنُ تعريفُها بمعناها الواسعِ بأنها قيامُ المجموعاتِ التي لا تَعرفُ الدولةَ أو السلطةَ بإدارةِ نفسِها بنفسِها. ويَندرجُ قيامُ المجموعاتِ الكلانيةِ والعشائريةِ والقبائليةِ بإدارةِ نفسِها بنفسِها في هذا التصنيف. أما الإداراتُ الذاتيةُ الباقيةُ خارجَ حُكمِ السلطةِ والدولةِ ضمن المجتمعاتِ التي تسودُها ظاهرتا السلطةِ والدولةِ بكثافة، فيُمكنُ تقييمُها وإدراجُها في إطارِ الديمقراطيةِ بالمعنى الضيق. ففي المجتمعاتِ الدولتيةِ لا تَسري الإداراتُ الديمقراطيةُ الخالصة، ولا الإداراتُ الاستبداديةُ الخالصة. بل غالباً ما تَسُودُها ظاهرةُ الإدارةِ المتداخلة. وهذا ما يُثمِرُ بدورِه أنظمةً منفتحةً على تفسخِ وفسادِ السلطةِ والديمقراطيةِ فيها على حدٍّ سواء. ذلك أنّ سلطةَ الدولة، وبِحُكمِ طبيعتِها، مُضطرَّةٌ في علاقاتِها مع المجتمعِ إلى تحجيمِ الديمقراطيةِ وجرِّها إلى الوراء. بينما تَرمي قوى الديمقراطيةِ إلى توسيعِ حدودِها باستمرارٍ على أساسِ عدمِ الاعترافِ بالدولة. ينبعُ صُلبُ الموضوعِ من إشكاليةِ الدولةِ التي تتقمصُ قناعَ الديمقراطية، والديمقراطيةِ التي تتطلعُ إلى الدولة. وقد طُوِّرَت هذه التعقيداتُ بنحوٍ منظَّمٍ في المدنيةِ الأوروبية. في حين أنّ الخلافَ والتباينَ أعمقُ بين طبيعتَي الدولةِ والمجتمعِ في المجتمعاتِ الشرقية. لجوءُ سلطةِ الدولةِ إلى الحدِّ من نطاقِها عبر الدساتير، والحدُّ من نطاقِ المجتمعِ بالديمقراطيةِ التمثيليةِ بالأغلب؛ قد طَوَّعَ الاشتباكاتِ المحتدمةَ فيما بينهما، وأَتاحَ فرصةَ العيشِ معاً. هذا النموذجُ الذي طوَّرَته الحداثةُ الرأسمالية، إنما يَهدفُ ضمنياً إلى تطويعِ الصراعاتِ الطبقيةِ والتحكمِ بها. فبينما تستمرُّ الحداثةُ الرأسماليةُ من الناحيةِ الأولى في بسطِ الدولةِ القوميةِ التي هي أكثرُ أشكالِ سلطةِ الدولةِ توسُّعاً وكثافةً، وتسليطِها على كافةِ القوى الاجتماعيةِ التي خارجَ نطاقِها؛ فإنها تسعى من الناحيةِ الثانيةِ إلى إرضاءِ القابعين تحت نيرِ استغلالِ وقمعِ نظامِها القائمِ بِحِصَّتِهم من الديمقراطيةِ التمثيليةِ البرلمانيةِ كواجِهةٍ للزينة. وهذه هي الظاهرةُ المسماةُ بالديمقراطيةِ الليبرالية.

إنقاذُ الديمقراطيةِ الاجتماعيةِ من هذه الغفلةِ غيرُ ممكن، إلا بتطويرِ الإداراتِ الذاتيةِ الديمقراطيةِ كأقربِ نموذجٍ إلى الحلِّ الصحيح، في حالِ عدمِ مطابَقتِها مع سلطةِ الدولةِ من جهة، وعدمِ تحريفِها تحت اسمِ الديكتاتوريةِ الشعبيةِ أو البروليتاريةِ من الجهةِ الأخرى. أي أنّ أرضيةَ الإدارةِ الذاتيةِ الديمقراطيةِ وميزتُها الخاصةُ بها لا تتجسدُ في تدولِها باسمِ الشعب، ولا في تحولِها إلى مُلحَقٍ بسيطٍ مُرفَقٍ بالدولة. ومن العصيبِ تجاوُزُ التحريفاتُ اليمينيةُ واليساريةُ للديمقراطيةِ الليبراليةِ بأسلوبٍ آخر عدا هذا السبيل. ذلك أنّ قوةَ الحُكمِ الأساسيةَ للّيبراليةِ تنبعُ من احتكارِ الدولةِ والاحتكاراتِ الاقتصادية، سواءً عَكسَت ذاتَها كديمقراطيةٍ ليبراليةٍ كلاسيكية، أم كديمقراطيةٍ شعبيةٍ للاشتراكيةِ المشيدة. من هنا، فالوظيفةُ التي تقعُ على عاتقِ المجتمع، هي إنشاءُ قوى العصرانيةِ الديمقراطيةِ الخاصةِ به في وجهِ قوى المدنيةِ الموجودةِ تاريخياً وقوى الحداثةِ الرأسماليةِ المعاصِرة. هذا ويتجسدُ الدورُ التاريخيُّ للعصرانيةِ الديمقراطيةِ في بناءِ ذاتِها ضمن جميعِ الحقولِ الاجتماعية، والرقيِّ بالمعاني في ذاتِها؛ دون الانصهارِ في بوتقةِ الدولةِ القائمة، ودون التحولِ إلى امتدادٍ مدنيٍّ لها، ودون استهدافِ هدمِ الدولةِ والتطلعِ بالمقابلِ إلى التدول.

 

10-الاقتصاد:

من عظيمِ الأهميةِ البلوغُ بالاقتصادِ إلى تعريفٍ واضحِ الملامحِ والحدود، نظراً لإحاطتِه بالفَتَشيةِ بشكلٍ خاصّ. فالليبراليةُ التي تجعلُ تعريفَ الاقتصادِ بلا جدوى باختزالِها كلَّ شيءٍ إلى اقتصاد، إنما تَنظرُ إلى كلِّ ظاهرةٍ مناقِضةٍ للاقتصادِ على أنها اقتصاد. وبينما يُمكنُ إيضاح الاقتصادِ بالمعنى العامِّ بكونِه عمليةَ تلبيةِ الاحتياجاتِ الماديةِ الضروريةِ للمجتمع، والتعبيرَ المؤسساتيَّ والقواعديَّ اللازمَ لذلك؛ فبالمقدورِ تعريفُه بالمعنى الضيقِ بكونِه عمليةَ تبادُلِ الاحتياجاتِ الماديةِ متمحورةً حول السوق. إلى جانبِ الإجماعِ على تعريفِ اقتصادِ السوقِ بأنه يتَّخذُ قيمةَ المقايضةِ أساساً بدلَ قيمةِ الاستخدام، ينبغي استيعاب حقيقةٍ أخرى بأفضلِ وجه، ألا وهي قيامُ الرأسماليةِ بإفراغِ المجالِ الاقتصاديِّ من محتواه من خلالِ إخضاعِه لسيطرةِ وتَحَكُّمِ احتكاراتِ الدولةِ القوميةِ ورأسِ المال، تماماً كما تُفسِدُ الميدانَ الديمقراطيّ. حيث يُعَرَّفُ الاقتصادُ وكأنه صُلبُ نشاطاتِ احتكاراتِ رأسِ المالِ بشأنِ الأسواقِ المُشادةِ والمنضويةِ تحت سقفِ الدولةِ القومية. ما يجري هنا هو إنكارُ الاقتصاد، وإقامةُ نظامِ الربحِ التجاريِّ والصناعيِّ والماليِّ الاحتكاريِّ المفرطِ محلَّ الاقتصاد، رغم أنه ليس اقتصاداً، بل إنكارٌ لاقتصادِ الاحتياجاتِ الحقيقية. وهكذا يُعرَضُ هذا النظامُ بشرعنةٍ كثيفةٍ تحت اسمِ علمِ الاقتصاد، وكأنّ النشاطاتِ الاقتصاديةَ مقتصرةٌ على هذه الاحتكاراتِ منذ الأزلِ وإلى الأبد. هذه النشاطاتُ التي نستطيعُ نعتَها أيضاً بالإرهابِ الاقتصاديّ، هي بمثابةِ أفظعِ الكوارثِ الاجتماعيةِ التي لا نظيرَ لها في التاريخ. ذلك أنها تعني هدمَ المجتمعِ اقتصادياً، وتطويقَ السوقِ وتصييرَه ساحةً مُربِحة، وقيامَ الاحتكاراتِ الرأسماليةِ في الميادينِ الصناعيةِ والتجاريةِ بقطعِ أواصرِها كلياً مع الاقتصاد، لتُحوِّلَه بالوسائلِ الماليةِ إلى صِنفٍ أساسيٍّ تماماً في كسبِ المالِ من المال.

عصرُ رأسِ المالِ الماليِّ هو ذروةُ دمارِ الاقتصادِ والمجتمع. إننا وجهاً لوجهٍ أمام وحشٍ متهورٍ يكادُ يجرُّ نصفَ المجتمعِ نحو البطالة، ويُحوِّلُ إتناجَ وسائلِ الإبادةِ إلى قطاعٍ اقتصاديٍّ رئيسيٍّ باسمِ اقتصادِ السلاح، ويَهدفُ فقط إلى الربح، ولا علاقة له بتاتاً بالحاجاتِ الضروريةِ للمجتمع، ويُدمرُ البيئة، ويُحَوِّلُ كلَّ مواردِ الطبيعةِ والمجتمعِ إلى مصدرٍ للربح. إنه وحشٌ ذو طابعٍ مناهِضٍ للمجتمع، مناهِضٍ للإنسان، ومناهِضٍ للطبيعة. المهمُّ لديه هنا هو شلُّ تأثيرِ كدحِ النساءِ والشبيبةِ أولاً، بوصفِهم أولَ ضحايا هذا النظامِ القائم، وإرغامُهم على حياةٍ لااقتصادية؛ والقيامُ بالمقابلِ بتقديمِ كِبار المدراء التنفيذيين[1] كرؤساءِ أركانِ الاقتصاد، رغمَ أنه لا علاقة لهم بالاقتصاد، بل يُشكِّلُ كلُّ واحدٍ منهم "شخصاً رائعاً" باعتبارِه ذئباً في حُكمِ السلطة. وهكذا يَجِدُ هذا التناقضُ الذي لا يتصورُه العقلُ معناه وكأنه نشاطٌ اقتصاديٌّ رئيسيّ! تَقومُ الاحتكاراتُ الأوليغارشيةُ باقتلاعِ سوادِ المجتمعِ من الاقتصادِ الحقيقيّ، وتجعلُ الربحَ محفِّزاً أو دافعاً وحيداً، وتقتصرُ علاقتُها مع المجتمعِ –فقط وفقط– على إنشاءِ الاحتكاراتِ الاستغلاليةِ وتأمينِ ديمومتِها؛ وتؤدي بالتالي إلى ظاهرةِ السرطانِ الاجتماعيِّ بدرجةٍ تُخَلِّفُ حتى سلطةَ الدولةِ وراءَها. من هنا، فعدمُ اعتبارِ تلك الاحتكاراتِ الأوليغارشيةِ اقتصاداً، يتحلى بأهميةٍ مصيريةٍ تماثلُ أهميةَ الحكمِ عليها بأنها إنكارٌ للاقتصاد.

ينبغي صياغة تعريفٍ مُتقَنٍ للرهبانِ العصريين وللنشاطاتِ الحقيقيةِ التي يؤدونها، والذين يتذرعون بعلمِ الاقتصادِ السياسيِّ في عصرنا (عصر الحداثةِ الرأسمالية) لأَسطَرَةِ منافعِ القوى الخارجةَ على المجتمعِ بما يُضارعُ ألفَ مرةٍ الإبداعاتِ الميثولوجيةَ في عصرِ الكهنةِ السومريين. كما ويجب إدراجُ كبار المدراء التنفيذيين في الشركاتِ أيضاً ضمن هذا التصنيف. وعلينا عدم الإغفالِ أبداً أنّ الدولةَ القوميةَ هي بالأساسِ هذا النظامُ الشاقُّ من نَسقِ الكَهنةِ العصريّين. من هنا، وعلى الرغمِ من كونِ ماركس أكثرَ مَن تصدى للرأسماليةِ باسمِ العلم، إلا أنه ثمة حاجةٌ ماسةٌ لإعادةِ تفسيرِ ودراسةِ منجَزِه "رأس المال"، الذي دوَّنه بغيةَ إضفاءِ الطابعِ العلميِّ على هذا النظام، وكأنّه يرتكزُ إلى أرضيةٍ مشروعة. وعلى الرغمِ من محاولاتِه لإسقاطِ قناعِ الرأسماليةِ في العديدِ من المناحي، إلا أنّ عرضَه إياها كنظامٍ تاريخيٍّ لا بدَّ منه، هو المُسَبِّبُ الأوليُّ لانصهارِ الماركسيةِ في بوتقةِ الحداثةِ في نهايةِ المطاف. وتقديمُ الاشتراكيةِ المشيدةِ أعظمَ خدماتِها للّيبرالية، واحتلالُها مكانَها ضمن النظامِ القائم، إنما له صِلاتُه الوثيقةُ بهذه الحقيقية، مثلما لوحِظَ في تجربتَي الاتحادِ السوفييتيِّ والصين. أما اختزالُ علمِ الاجتماعِ إلى مستوى الاقتصاد، وتخصيصُ الاقتصادِ بتحليلاتِ النظامِ الرأسماليِّ الذي يعني أصلاً الإنكارَ الدائمَ للاقتصاد؛ فيُشَكِّلان صُلبَ الأزمةِ في الحقلِ العلميّ. من هنا، ومن دون تجاوُزِ أزمةِ الاقتصادِ السياسيِّ الذي يَجرُّ كافةَ العلومِ الاجتماعيةِ نحو الأزمة، لن يَكُونَ بالوِسعِ تجاوُزُ الأزمةِ المُعاشةِ في كافةِ العلومِ التي افتقرَت لتوجيهاتِها المؤسساتية (الجامعات) والعقلانية والفلسفية. هذا ومن المستحيلِ أيضاً تخطي الأزمةِ الاجتماعيةِ عموماً، وطيشِ الحداثةِ الرأسماليةِ خصوصاً؛ ما لَم يتمّ تخطي الأزمةِ العلمية، وما لَم يُعَدْ إنشاءُ العلمِ معنىً ومؤسساتياً.

 

 

11-  الصَّهر:

يُعَبِّرُ الصَّهرُ عن العلاقةِ أو الممارسةِ أحاديةِ الجانب، التي تلجأُ إليها احتكاراتُ السلطةِ ورأسِ المالِ في مجتمعاتِ المدنية، وتُطَبِّقُها على المجموعاتِ الاجتماعيةِ التي أَخضَعَتها لنيرِ العبوديةِ بغرضِ إسقاطِها إلى مستوى امتدادٍ لها أو مُلحَقٍ بها. إنّ الأمرَ الأساسيَّ في الصهرِ هو تكوينُ العبيدِ بأقلِّ التكاليفِ من أجلِ آليةِ السلطةِ والاستغلال. فالمجموعةُ المنصهرةُ التي جُزِّئَت هويتُها الذاتيةُ وكُسِرَت شوكةُ مقاومتِها، تغدو حشداً من العبيدِ الأنسب لخدمةِ النخبةِ الحاكمة. الوظيفةُ الأساسيةُ للعبدِ المصهورِ هنا، هي التشبُّهُ المطلقُ بسيدِه، ومُحاكاتُه إياه، وإثباتُ الذاتِ ببذلِ شتى أنواعِ الجهودِ في سبيلِ التحولِ إلى مُلحَقٍ وامتدادٍ له، وتأمينُ مكانٍ لذاته داخل النظامِ القائمِ بناءً على ذلك. ولا خَيار آخر أمامه إطلاقاً. فالخَيارُ الوحيدُ المعروضُ أمامه للتمكنِ من العيش، هو التخلي لحظةً قبلَ أخرى عن هويتِه الاجتماعيةِ القديمة، وتكييفُ ذاتِه بأفضلِ الأشكالِ مع ثقافةِ أسيادِه. لذا، فالمجتمعُ المارُّ من الصهر، يتألفُ من مشروعِ أناسٍ عديمي الضميرِ والخُلُقِ والذهنية، ويتبارَون ليكونوا الأكثر طاعةً وخنوعاً وعملاً وخدمة. وما مِن قرارٍ يتخذه هؤلاء أو ممارسةٍ يقومون بها بحرية. بل فُرِضَت عليهم خيانةُ كافةِ قِيَمِ هويتِهم الاجتماعية، واختُزِلوا إلى حيواناتٍ بهيئةِ بشرٍ لا هَمَّ لهم سوى إشباع بطونهم. هذا وتستخدمُ النخبةُ الحاكمةُ سلاحَين أساسيَّين لفرضِ اللاهويةِ هذه على المجتمعِ المصهور: أولُهما؛ العنفُ الجسديُّ المحض. أي، التلويحُ بسيفِ الإبادةِ والهَلاكِ لدى أبسطِ تمردٍ أو انتفاض. ثانيهما؛ تركُهم وجهاً لوجهٍ أمام المجاعةِ والبطالة. حيث يُعمَلُ على تنفيذِ هذا القانونِ الفولاذيّ: إذا أصَرَّيتَ على التشبثِ بهويتِكَ الثقافية، وإذا لَم تصبحْ خادماً على النحوِ الذي يشاؤُه سيدُك؛ فإما أنْ يَذهبَ رأسُك، أو تبقى جائعاً!

الآليةُ الأساسيةُ التي تُطَوِّرُها النخبةُ الحاكمةُ في سبيلِ ذلك، هي سدُّ جميعِ طرقِ التطورِ البنيويِّ والعقليِّ والثقافيّ، بغرضِ عجزِ المنشغلين بكلِّ ما هو معنيٌّ بالثقافةِ المصهورةِ –أياً كانوا– عن إيجادِ أيةِ فرصةٍ للعيشِ في المجتمعِ الرسميّ. ومهما كانت درجةُ الكفاءةِ والمهارةِ لدى الشخصيةِ أو المجموعةِ أو المؤسسةِ التي تَعقِدُ العلاقةَ مع الثقافةِ المصهورةِ وتَرمي إلى إحيائِها، فإنّ جميعَ أبوابِ الدولةِ تُوصَدُ في وجهِها. كما تُتَّخَذُ مختلفُ التدابيرِ اللازمةِ لطردِها من ميادينِ المجتمعِ الخارجِ عن إطارِ الدولة، سواء بالأساليبِ السريةِ أم العلنية، المرنةِ أم القاسية. أما الشخصياتُ والمؤسساتُ المهتمةُ بالثقافةِ المصهورةِ بمنوالٍ هاوٍ وغِرٍّ في البداية، ولدى إدراكِها مع مُضِيِّ الوقتِ أنّ الأمرَ لا يقتصرُ فقط على إغلاقِ كافةِ الأبوابِ في وجهِها، بل وقد يتعرضُ وجودُهم الجسديُّ للخطرِ أيضاً في حالِ إصرارِهم على خُطاهم؛ فإما أنْ تنخرطَ بين صفوفِ مجتمعِ الدولةِ القوميةِ المهيمنةِ والصاهرة، أو أنْ تُغَيِّرَ أساليبَها بحثاً عن الخلاصِ في الشخصيةِ المتصديةِ والتنظيمِ المقاوِمِ بفعالية. وثمة عددٌ لا يُحصى في هذا المضمارِ ضمن جميعِ كياناتِ الدولةِ القوميةِ للحداثةِ الرأسمالية. لا تُطَبَّقُ هذه الآليةُ المذكورةُ على المجموعاتِ الأثنيةِ والشعوبِ المسحوقةِ فحسب، بل إنّ المجموعاتِ الأثنيةَ المختلفةَ والطبقاتِ المسحوقةَ من الأمةِ التي تنتمي إليها النخبةُ الحاكمةُ أيضاً تنالُ نصيبَها من الصهر، وتبقى وجهاً لوجهٍ أمام فُقدانِ لهجاتِها الأثنيةِ وقِيَمِها الثقافيةِ الصامدةِ حرةً.

يُشَكِّلُ الشعبُ الكرديُّ مثالاً صارخاً في هذا السياق، كونَه الضحيةَ الأكبرَ للصهرِ في الشرقِ الأوسط. فالإصرارُ على الكردايتية، يعني تحمُّلَ سياقٍ يبدأُ بالتخبطِ في البطالة، ويصلُ حدَّ التطهيرِ العِرقيِّ والإبادة. فأيّما كانت المهاراتُ التي يتحلى بها فردٌ كرديٌّ ما، فإذا لم يَهضمْ طوعاً شتى أنواعِ السياساتِ الثقافيةِ التي تتَّبِعُها الدولةُ القوميةُ المسيطرة، فستُوصَدُ على التوالي جميعُ الأبوابِ أمام تطورِه الشخصيِّ والمؤسساتيّ. فإما أنْ يختارَ الاستسلامَ طوعاً ليَرى كيف تُفتَحُ له الأبوابُ البالغةُ مرتبةَ تَسَنُّمِ منصبِ رئاسةِ الجمهورية، أو أنْ يَعرفَ كيف يتحملُ كافةَ أنواعِ البلاءِ والكوارثِ التي ستحلُّ به، والتي ستصل حدَّ التطهيرِ والإبادةِ في حالِ اختارَ المقاومةَ وعدمَ الاستسلام.

 

12- الإبادة:

تَهدفُ الإبادةُ، التي هي بمثابةِ امتدادٍ لظاهرةِ الصهر، إلى التصفيةِ التامةِ جسدياً وثقافياً للشعوبِ والأقلياتِ وجميعِ أنواعِ الجماعاتِ والمجموعاتِ الدينيةِ والمذهبيةِ والأثنيةِ التي صَعُبَ تذليلُها بأسلوبِ الصهر. حيث يُفَضَّلُ أحدُ هذَين الأسلوبَين حسبما يتوافقُ معه الوضع. فيُطَبَّقُ أسلوبُ الإبادةِ الجسديةِ عموماً على المجموعاتِ الثقافيةِ التي هي في منزلةٍ أعلى حسب ثقافةِ النخبةِ الحاكمة، أي حسبَ ثقافةِ الدولةِ القومية. والمثالُ النموذجيُّ على ذلك هو الإباداتُ الجماعيةُ وعملياتُ الجينوسيد المُطَبَّقةُ على الثقافةِ اليهوديةِ والشعبِ اليهوديّ. فنظراً لكونِ اليهودِ يشكِّلون على مدى التاريخِ الشرائحَ الأمنعَ والأقوى في ميدانِ الثقافتَين الماديةِ والمعنويةِ على السواء، فقد تعرَّضوا دوماً للضرباتِ والإباداتِ على يدِ الثقافاتِ المضادةِ المهيمنة، وطالَتهم مِراراً عملياتُ التطهيرِ المسماةُ بالمذابحِ المنظَّمة.

أما الإباداتُ الثقافيةُ التي هي ثاني أسلوبٍ في الإبادة، فغالباً ما تُطَبَّقُ على الشعوبِ والمجموعاتِ الأثنيةِ والجماعاتِ العقائديةِ التي هي في وضعٍ واهنٍ ومتخلفٍ مقارنةً مع ثقافةِ الدولةِ القوميةِ والنخبةِ الحاكمة. وبالإبادةِ الثقافيةِ التي تُعَدُّ آليةً أساسية، يُرامُ إلى تحقيقِ التصفيةِ التامةِ لتلك الشعوبِ والمجموعاتِ الأثنيةِ والدينيةِ ضمن بوتقةِ ثقافةِ ولغةِ النخبةِ الحاكمةِ والدولةِ القومية، ويُسعى إلى القضاءِ على وجودِها بإقحامِها في مكبَسِ كافةِ أنواعِ المؤسساتِ الاجتماعية، وعلى رأسِها المؤسساتُ التعليمية. الإبادةُ الثقافيةُ شكلٌ من أشكالِ التطهيرِ العِرقيِّ أكثر مخاضاً مقارنةً مع الإبادةِ الجسدية، وتمتدُّ على سياقٍ طويلِ الأَمَد. والنتائجُ التي تُفرِزُها أفظَعُ مما عليه الإبادةُ الجسدية، وتُعادِلُ أكبرَ أنواعِ الفواجعِ مما قد يَشهدُه شعبٌ (أو مجموعةٌ ما) في الحياة. ذلك أنّ الإرغامَ على التخلي عن وجودِه وهويتِه وعن جميعِ المُقَوِّماتِ الثقافيةِ الماديةِ والمعنويةِ الكائنةِ في طبيعةِ مجتمعِه، يُعادِلُ الصَّلبَ الجماهيريَّ الممتدَّ على مرحلةٍ طويلةِ المدى. يستحيلُ الحديثُ هنا عن العيشِ في سبيلِ القيمِ الثقافيةِ المُعَرَّضةِ للإبادة، بل لا يُمكنُ الحديثُ سوى عن التأوُّهِ والأنين. فالألمُ الأصليُّ الذي تتسببُ به الحداثةُ الرأسماليةُ لكلِّ الشعوبِ والطبقاتِ المسحوقةِ والمتروكةِ عاطلةً عن العملِ بُغيةَ تحقيقِها ربحَها الأعظميّ، لا ينبعُ من استغلالها إياها مادياً وحسب؛ بل هو ألمٌ يُجتَرُّ بسببِ صَلبِ جميعِ قِيَمِها الثقافيةِ الأخرى. ذلك أنّ الاحتضارَ على الصليبِ هو الحقيقةُ التي تَشهدُها كافةُ القيمِ الثقافيةِ الماديةِ والمعنويةِ الخارجةِ عن الثقافةِ الرسميةِ للدولةِ القومية. وبالأصل، يستحيلُ تحويلُ البشريةِ والبيئةِ الأيكولوجيةِ إلى مصدرٍ للاستغلال، وتعريضُها بالتالي للنَّفاذ، فيما خَلا ذلك من أساليب.

يمثِّلُ وضعُ الكردِ أكثرَ أمثلةِ الإبادةِ الثقافيةِ مأساويةً ولفتاً للأنظار. فبينما يُفرَضُ اجترارُ الألمِ على الشعبِ الكرديِّ ضمن آليةِ الصَّلبِ التي تَنصبُها الدولُ القوميةُ المسيطرةُ وتُسَلِّطُها على جميعِ قيمِه الثقافيةِ الماديةِ والمعنوية، فإنّ مواردَ الغِنى، التحتيةَ منها والفوقية، والزخمَ الاجتماعيَّ بأكملِه –وعلى رأسِه قِيَمُ الكدح– يُعَرَّضُ للسلبِ والنهبِ المكشوفَين، ويُترَكُ الباقي يواجهُ الانمحاءَ والبطالةَ والعطالةَ والتفسخ، ويُجعَلُ قبيحاً، ويُقحَمُ في وضعٍ لا يُطاقُ وبمنأى عن النظرِ إليه. وكأنه لَم يَبقَ سوى طريقٌ واحدٌ أمام الإنسانِ الكرديّ: الانصهارُ في بوتقةِ الدولةِ القوميةِ المهيمنة، والتخلي كلياً عن قيمِه الأساسية! ولا سبيل للحياةِ فيما عدا ذلك. ويبدو فيما يبدو، أنّ إبادةَ الكردِ ثقافياً، والتي قد تَصِلُ بين الحينِ والآخرِ حدَّ الإبادةِ الجسدية، تتصدرُ لائحةَ الأمثلةِ الأكثر مأساويةً ولفتاً للنظرِ في الإشارةِ إلى حقيقةِ الحداثةِ الرأسماليةِ بكلِّ سطوعٍ وجلاء.